دعاهم سيادته إلى وطنهم.. وأوصاهم خيراً بأوطانهم التي فيها يعيشون, وحمّلهم رسائل نبيلة تحمل عبق الحضارة السورية العريقة, ونفحة من التاريخ المجيد بلغة العصر والتفاعل الحي, ونبض السوريين الأوائل الذين ركبوا المخاطر وهم يحملون على مناكبهم همّ الاغتراب وهمّ الأهل والوطن وقبل هذا وذاك همّ العودة.
لقد أجاب السيد الرئيس بشفافية عالية, ودقة لامتناهية, عن التساؤلات التي شغلت الرأي العام السوري.. والعربي خلال الفترة الماضية, وقدم سيادته صورة حقيقية وحيّة للموقف السوري من مختلف القضايا المطروحة.. ووضع النقاط على الحروف ليعطي بذلك ومن خلاله توصيفاً دقيقاً لطبيعة ماجرى ويجري على الساحتين الاقليمية والدولية والموقف من المتغيرات المتوالية في المنطقة, وتحديداً على الساحتين اللبنانية والعراقية وعملية السلام وسبل استئنافها والظروف التي دفعت بها الى الطريق المسدودة.
فصراحة الرئيس الأسد.. وعلانيته.. وتمسكه بمبدأ إشراك الرأي العام وإطلاعه على المستجدات ليست جديدة على المواطن العربي, سواء داخل سورية أم خارجها, انطلاقاً من مبدأ المكاشفة والتباسط في العلاقة مع الشعب حول كل مايُرتَّب ويُخطَّط للمنطقة وشعوبها ودولها, الأمر الذي يستوجب ربط المفاهيم والمعلومات والمواقف بين المواطنين السوريين في الوطن وفي المغتربات من جهة وبين الرأي العام العربي من جهة ثانية, بهدف توسيع دائرة الاطلاع على مايجري في الكواليس الدولية (حيث تسود الفوضى في المفاهيم الخاطئة والمصطلحات الكاذبة, والتي تزيد الانقسام بين الثقافات وتهيئ للمزيد من الحروب وسفك الدماء, بينما المؤسسات الدولية التي وجدت من أجل خير العالم وإرساء العدل والسلام فيه يجري تحويلها إلى أذرع لقوى كبرى على حساب مصالح الدول الأصغر, ولتكون أدوات للتدخل في الشؤون الداخلية أو الثنائية لتلك الدول).
من هنا تأتي أهمية المكاشفة والمصارحة التي أرادها السيد الرئيس نهجاً وعقيدة وأسلوب قيادة.. فعندما يصبح التدخل سافراً على النحو الذي يجري يصبح الشعب هو المعني مباشرة, وهو المستهدف أولاً وأخيراً, كما استهدف من قبل, والمكاشفة هنا ليست من باب سرد المعلومات التي أفضى ببعضها السيد الرئيس ووعد بالبعض الآخر في وقت آخر أو عندما تنضج الظروف المواتية, وإنما من باب تكريس العلاقة الاستراتيجية بأبعادها ومضامينها بين القائد والشعب.
فكل ماورد في الخطاب التاريخي له دلالاته وله أبعاده, والأهم فيه هو الشرح المستفيض للمخطط المرسوم الذي شهدته أروقة الظلام تحت عناوين وشعارات تبدو براقة.. جذابة للوهلة الأولى, وقد استقطبت قصيري النظر ومحدودي الرؤية والرؤى, وهي إن حملت في بريقها وجاذبيتها شيئاً فقد حملت السمّ في الدسم لا أكثر ولا أقل.
والحوار العقلاني الذي أطلقه الرئيس الأسد يوماً ويؤكد عليه كل يوم لايعني القفز فوق المسلمات الوطنية ولا الثوابت القومية التي استمدت ثباتها من مواقف سورية, فيما استمدت سورية ألقها وحضورها وتأثيرها من العمق القومي للشعب العربي الواسع الذي خاطبه السيد الرئيس من على منبر دمشقي يحتضن الاغتراب السوري العالمي المتنوع, والمنثور على مساحة أكثر من خمسين دولة في العالم.
ولانبالغ إذا قلنا إن حديث السيد الرئيس إلى الأمة كان نقلة نوعية في أسلوب وطريقة التعاطي مع الأحداث وآثارها الجانبية, فلاشيء يمكن أن نخفيه, وليس لسورية في المواقف وجهان, ولا سرّية في التعامل مع الآخرين, فكل شيء معلن وواضح, مادامت الحقوق واضحة ومعترفاً بها دولياً, وهذا ينسحب على المواقف كلها بما في ذلك عملية السلام, التي دمّرها الإسرائيليون وفوّتوا فرصة تحقيقها, لابل أشبعوا مستوطنيهم حقداً وكراهية حتى تبددت معالم السلام وخبت فرصه حتى زمن أميركي آخر.
أما الجوانب المحلية التي تناولها السيد الرئيس فينبغي التوقف عندها لتسليط المزيد من الضوء على مضامينها الشاملة لأنها أقرب ماتكون إلى منهاج مرحلي غاية في الدقة, وغاية في الضرورة معاً, وإزاء هذا وفيه لنا وقفة أخرى.