واذا كان رأي العسكريين يندرج في اطار التكهن والتوقع والاحتمالات القابلة لخطأ التقدير,ففي اي خانة يمكن إدراج رأي بوش حول مايسميه التقدم على الأرض, علماً ان التقدير في المسائل العسكرية غالبا مايبديه العسكريون وليس السياسيين,فهم أدرى بقوة جيوشهم وقوة الخصم وطبيعة الصراع الدائر ونتائجه المحتملة والزمن الذي يتطلبه حسم الصراع,هذا اذا افترضنا أن حسمه ممكن في مصلحة قوة محتلة, مع أن التاريخ لم يسجل حادثة واحدة كان الحسم فيها لمصلحة قوة محتلة ضد شعب مقاوم,وحسبنا دليل هنا هزيمة القوات الأميركية في فيتنام وهزيمة القوات الفرنسية في الجزائر, وهزيمة القوات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني.
وهذا تحديداً مايجعل تصريح بوش يدخل في دائرة المبالغة وعلى طريقة المبالغة نفسها التي جرى اعتمادها في سياق تبرير الحرب على العراق عندما اتهم العراق بامتلاك أسلحة دمار شامل, وبعلاقة مع تنظيم القاعدة وبتهديد يمثله للمصالح القومية الاميركية,وثبت فيما بعد بطلان كل هذه التهم, لتظهر الحرب على أنها حرب جرى ترتيبها لأهداف السيطرة على النفط وتحويل العراق الى منصة انطلاق نحو تغيير الشرق الأوسط وجعله اكثر ملاءمة للمصالح الاميركية ونزعة الأبطرة التي تحكمت بتفكير وسلوك التيار اليميني المتصهين في النظام الأميركي.
حتى وان كان الرئيس بوش يبني تصريحه على تقدم القوات الأميركية في النجف فهذا لاينزع عن التصريح صفة المبالغة لاعتبار ان معركة النجف لم تكن الأولى كما لن تكون الأخيرة في صراع الاحتلال الأميركي والمقاومة العراقية . فقد سبق للقوات الأميركية ان احتلت العراق كله واقتحمت بغداد وأعلن الرئيس بوش نفسه بعد ذلك نهاية العمليات العسكرية في إشارة منه الى إحراز النصر, لكن تطور الأحداث من بعد ,برهن بوقائع الصراع الدامية أن الحرب الحقيقية في العراق هي تلك التي اندلعت بعد تورط الجيش الأميركي في العراق وظهور المقاومة على أشدها.
ومن المهم أن نلاحظ هنا بأن تقدم القوات الاميركية في النجف إنما كان نتيجة اعتمادها أسلوب الأرض المحروقة واستخدامها أسلحة محرمة دوليا ووسائل تدمير وإبادة,جعلت حزب الخضر الإيطالي يصف هذه الأساليب والوسائل بعمليات إبادة جماعية يقوم بها الجيش الأميركي ضد سكان النجف, ما يشكل حسب مبادىء القانون الدولي جرائم ضد الإنسانية يجب المعاقبة عليها أمام محاكم دولية مختصة .
ولكي نقف على الخلفية الحقيقية لتصريح بوش , يتعين علينا ربطه بمعركة الانتخابات الجارية على الرئاسة الأميركية , فالوضع في العراق في ضوء تطوراته العاصفة وفضائح الحرب التي قادت إليها, أصبح أحد أهم عناصر التجاذب بين مرشحي الرئاسة والى الحد الذي باتت تطورات هذا الوضع تشكل رهان الانتخابات, فإن مال لمصلحة بوش في اتجاه السيطرة عليه أضاف ذلك نقاطاً تتيح فرصا أمامه لاستقطاب الناخب الأميركي الى صفه, وان كان العكس فالنقاط ستكون في مصلحة كيري, الأمر الذي يفسر التصعيد الأميركي في النجف الآن وتصريح بوش عما أسماه بالتقدم على الأرض.
وعلى أية حال اذا كان لابد من حديث عن التقدم المطلوب على صعيد الوضع العراقي فهو التقدم الذي يجب إحرازه تجاه اخراج أميركا من المأزق الحاد الذي وضعتها فيه سياسة بوش الخاطئة وحرب أنتجتها على شاكلتها لم تجلب لها سوى الفضائح والسمعة السيئة والمزيد من الكراهية. وهذا لن يتحقق إلا بالانسحاب السريع من العراق وترك العراقيين يرسمون مستقبلهم بحرية واستقلال.