لا أعرف أية رياح قادتني بعد سنوات من ذلك, لأستقر في الجريدة نفسها.. في القسم نفسه, حيث وقفت وجهاً لوجه أمام حلمي الوردي, شاركته آخر أوهامه وآخر معاركه, وصدقت كلماته عن الصحافة الحرة, ضمير المجتمع وصوت الناس, يومها لم يكن قد تحول بعد إلى دون كيشوت أخرق, ولم يكن أعداؤه مجرد طواحين هواء.. أعداؤه كانوا مجسدين وقابلين للمس: الفاسدون وعديمو الموهبة.
وفيما ظل محترقاً بأفكاره النبيلة, ومتشبثاً ببنطال السبعينيات المهترئ وبسيجارة الشرق الرديئة, ومتبختراً ببضع ليرات في جيبه, كان زملاؤه الرماديون قد حققوا نجاحات مذهلة مطبقين الحصار حوله, صاروا مسؤولين متنفذين أو أصدقاء حميمين لمسؤولين متنفذين.
تبخّر حلمه وصدأت روحه ثم انتهى إلى مجرد نكتة عبثية ومطرقة ثقيلة على رؤوس أكثر المتشدقين بالمثل والشعارات وهكذا تواطأ الجميع على نسيانه..
بعد أن غاب ثلاثة أشهر, رأيته واقفاً أمام لوحة الإعلانات في الجريدة. قال لي دون أثر للمزاح: (أبحث عن عقوبة بحقي.. صدقني لم أعد انتظر مكافأة, بل عقوبة.. أي شيء يثبت أنني موجود.. ان أحداً ما, ما زال يسأل عني)...
وفي آخر زيارة إلى بيته حدثته عن مقالاته القديمة الرائعة, فهز رأسه بحماس طفولي مبدياً إعجابه بالرجل الذي كان والذي لم يعد هو بالتأكيد, ثم, وكأنه تذكر أين هو, استدرك قائلاً:( آه.. ولكن ما فائدة كل ذلك..?.. أتدري ما هو أصعب من الموت..? إنه الإهمال...)
أرثيه حياً, فقط لأنني أخاف من نهايته.. أخاف أن يكتمل تحقق حلمي القديم الساذج...