لن نلوم آباءنا, وندرك ما كانت حالهم, حين وضع مصطلح (المسألة الشرقية) قيد التداول. كانت الغيبوية التاريخية, والحضارية, تطبق علينا. وظل المصطلح يتفاعل زهاء قرن إلى أن فعل ما فعله في اتفاقية سايكس- بيكو. أعيد ترتيب عظامنا. أجل عظامنا التي لاتزال تعمل- قبليا- حتى الآن.
اكتب هذا, كلبناني يعي أي مأزق داخلي يعيشه مجتمعه, حين يكون هناك من يغفل غرائزيا, وتحت أقنعة زجاجية شتى, ماذا يعني مصطلح (الشرق الأوسط الكبير).
إذا كانوا يريدون تفسيرا آتيا من الخارج, فها أننا نأتي برأي المفكر الفرنسي الكبير ريجيس دوبريه الذي يقول: (هذا يعني أن خريطة الشرق القديم أمام لحظة الزلزال: الجغرافيا تتهاوى, دول تنتفخ إلى حد الانفجار, ودول تضيق إلى حد الاضمحلال, مجتمعات تتحطم وأخرى تتمزق. التاريخ يموت, ولن تكون هناك أي هوية -الحد الأدنى من الهوية- للفرد أو للمجتمع أو حتى للأمة).
أسوأ بكثير من أن نتداول, ببغائيا, مصطلح البلقنة (وقد عشنا تجربة سايكس بيكو- التي هي حتما أكثر فظاعة وفظاظة), فالشرق الأوسط الكبير يعني وضعنا جميعا, ودون استثناء, في مهب المجهول. هل ننتظر من دوبريه نفسه أن يستغرب كيف إن العرب الذين هم الضحايا الذهبية لهذا المجهول, لا يبادرون إلى مواجهة الظاهرة الامبراطورية, ولو بالموقف على الأقل لا بالخندق, وهو الضروري, مع أن المجهول إياه ينطوي على كل دلالات الهاوية...
مرة أخرى, اكتب هذا كلبناني, وفي لحظة الزلزال, لأستغرب كيف يتعامل البعض مع العلاقات اللبنانية- السورية وفي هذا الوقت بالذات. هم الذين يعلمون كم أن سورية معنية بالدولة اللبنانية الموحدة والقادرة بعدما زالت هذه الدولة لسنوات, وكادت تزول أكثر, لولا موقف الرئيس الراحل حافظ الأسد...
هم الذين لابد اطلعوا على ما كان يبتغيه حاييم وايزمان, وقد استصدر وعد بلفور, وما انطوت عليه مراسلات دافيد بن غوريون وموشي شاريت, وما اقتضت به نصوص اتفاق 17 أيار, وما كان يرمي إليه الاحتلال الإسرائيلي لاجزاء حيوية من الجنوب والبقاع.
كل شيء من هذا يعني, وبالنص التوراتي أم بالذريعة الاستراتيجية, وضع اليد على لبنان, أو تفكيكه, أو ازالته. وكل شيء من هذا لم نستطع أن نواجهه إلا بمساعدة اليد السورية التي جازفت بكل شيء وفي ظروف ندرك مدى خطورتها بل وأهوالها (لمن قرأ ما قاله يفغيني بريماكوف حول الموضوع). الآن هناك أرييل شارون, يعني هناك من يختزل كل الشراهة الإيديولوجية والاستراتيجية حيال لبنان, فهل هذا وقت ذلك الترف القبلي, أجل القبلي, لطرح مصطلحات تصلح لمغني الدرجة الثالثة (وما أكثرهم في هذه الأيام) لا لساسة الدرجة الثالثة (وما أكثرهم أيضا في هذه الأيام)!
اكتب كلبناني ليس ضد أحد, وإنما من أجل ذلك الأحد, وبمنأى عن منطق الأكثرية السياسية والأقلية السياسية. إننا في لحظة الزلزال. أجل إن لبنان الذي هو هاجس إسرائيلي, في لحظة الزلزال. ألا تستحق هذه أن نواجهها, ويفترض أن نواجهها, بلحظة الوعي?