لكن الاستقالة تثير الكثير من علامات الاستفهام حول طبيعة توزيع الأدوار داخل الإدارة الأميركية وحول مدى حقيقة وجود معادلة التطرف والاعتدال في صفوف هذه الإدارة .
فهل حقا كان باول أحد أكثر المعتدلين في إدارة الرئيس بوش ? وما حقيقة الآراء التي تزعم بأن قوى اليمين المحافظ في طريقها للإمساك بكل مفاصل الإدارة الأساسية?.
للإجابة عن هذا السؤال لابد من القول إنه رغم اعتبار كولن باول من قبل الكثير من المحللين معتدلا, وإن هؤلاء المحللين يرون أن وزارة الخارجية الأميركية وبعض المفاصل الرئيسية الأخرى في الإدارة الأميركية ستكون بيد عناصر أكثرتشددا , إلا أن الحقيقة التي يمكن تسجيلها فيما يتعلق بتوزيع الأدوار داخل البيت الأبيض تؤكد وجود ما يسمى ب¯(التعددية البنائية) أو (التعددية الوظيفية) في النظام السياسي الأميركي, والتي تخفي وراءها دائما وحدة المصالح وضرورة توزيع الأدوار بين الجميع للحفاظ عليها .
ورغم أن باول لم يكن كريتشارد بيرل أو رامسفيلد أو بول وولفوتيز وغيرهم من المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية , إلا أن العالم كله رأى بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 كيف يتساوى جميع أقطاب هذه الإدارة في إطلاق التصريحات الجاهزة والمشحونة ضد العرب ,والتمهيد لشن الحروب الاستباقية أو ما يعرف ب¯ (الإجهاضية) للقضاء على الإرهاب المزعوم في غرب المعمورة وشرقها .
وللدلالة على هذه الحقيقة رأينا أنه بينما كان رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية ورئيس لجنة (الأنموفيك ) يؤكدان أمام أعضاء مجلس الأمن الدولي-قبل احتلال العراق- إن بغداد تتعاون بشكل إيجابي مع فريقيهما كان باول في المقابل يصر على أن العراق لا يتعاون مع المفتشين ومقدما الوثائق المزعومة إلى مجلس الأمن التي تثبت امتلاك بغداد لأسلحة الدمار الشامل, ومطالبا باستخدام القوة ضدها متجاوزا بذلك القرار 1441 الصادر عن مجلس الأمن والذي يحدد شكل التفتيش وماهيته وهدفه والتعامل مع نتائجه بالطرق السلمية, وهذه المسألة التي أتعب باول نفسه لإثباتها اعترف فيما بعد نائب وزير الدفاع الأميركي بول وولفوتيز بأنها لم تكن إلا الحجة لتسويغ احتلال العراق .
وفيما يتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي لم تتجاوز مهمة الجميع تخليص إسرائيل من مآزقها الأمنية والتستر على جرائمها النكراء وممارسة الضغوط على الفلسطينيين, وكان الجميع يتفهمون ما سموه دوافع إسرائيل وحقها في مكافحة الإرهاب المزعوم, لا بل إن باول نفسه أعلن غير مرة تفهمه لما يقوم به شارون من إرهاب منظم ولم يعلق بكلمة واحدة على مجزرة جنين المروعة, في الوقت الذي كان يطالب فيه الفلسطينيين بإدانة كل مظاهر العنف ضد الكيان الإسرائيلي.
في ضوء ذلك نستطيع القول أن السياسات العامة للإدارة الأميركية هي التي تحكم الأشخاص وليس العكس, ولذلك فإن المهم ليس رحيل هذا أو ذاك بل تغيير الاتجاهات السياسية المتطرفة ذاتها .