نزلت الأغاني من القلعة وتساقطت حبات الضوء على الأسوار..
لم يكن المتنبي واقفاً في الوداع ملوحاً لأرتال النظرات التي راحت تبتعد كأنها الأيام فمن يعيدها وكيف نسترجع هبوب النسيم وتلك اللحظات التي - طيرها- الهواء إلى جهات عديدة قد لا تجمعها مرة أخرى حاضرة سيف الدولة ولا نواح أبي فراس الحمداني ولو راح من أمام بوابات الزمن يشدو: إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى.
نعم انتهى المهرجان.. وسافرت السهرات الجميلة .. غابت الوجوه بعيداً وظل رنين الأصوات يصدح في الأذن.. كأني الآن في القلعة العظيمة.. وكأني بسيف الدولة عائداً من انتصاراته فحق له أن يرتاح بين أحضان الشعر والأغاني.. هل يحق لنا أن نبكي عندما نودع هذه اللحظات الرائعة التي راحت تتزحلق على بلاط الأدراج الحجرية التي مشى عليها الزمن طويلاً حتى أصبحت ملساء ناعمة كالحرير? هل يحق لنا أن (نفلش) العناوين والأسماء والأناشيد وحلب الشهباء تضمنا بحنو ومحبة?
نعم انتهى المهرجان ولم تنته الذاكرة ولا الذكريات.. زحمة أليفة جميلة.. تبرم ونقد وتوجع أحيانا, وأحياناً علينا أن نعترف أننا أخطأنا هنا وأجدنا هناك لكن هذا لا يعني أن يتوقف العمل.. فالذي لا يعمل لا يخطئ .. فليكن إذن.. ولنحاول في كل مرة أن نتجاوز أنفسنا وماضينا ونفتح ثغرة في جدار الأمل والصعوبات التي تحيط بكل عمل إبداعي متميز.
إن الأغنية وسيلة من وسائل الدفاع عن الهوية الثقافية والإبداعية, وهي سلاح خطير في إبراز جماليات تراثنا وحضارتنا..
والخوف كل الخوف من الشوائب الغربية التي تشوه موسيقانا وتستخف بتراثنا وتجتاح عقول المراهقين بحيث تحرك غرائزهم بدل أن تسمو بهم نحو الجمال والقيم الروحية والإنسانية.
إن وزارة الإعلام تدرك خطورة الأغنية وتدرك خطورة الغزو الخارجي لموسيقا متجذرة في حضارة عريقة.. لذلك لم تترك جهداً ولا وسيلة لإنجاح مهرجان الأغنية بحيث يصبح تقليداً راسخاً وتكريماً للجادين والعاملين من الشبان الموهوبين الذين هم بأمس الحاجة لدعم مؤسسات بلدهم في زمن راحت الفضائيات التجارية تدعم الغث وترفع بالتافهين إلى مصاف النجوم, وبدأ المبدعون الحقيقيون يشعرون بالخطر على الفن الجاد والملتزم الذي ينهل من تراث الأمة لينفي حضارتها وذاكرتها..
مهرجان الأغنية جاء في وقت اختلطت فيه الأوراق وبدأ الخوف على الجيل الشاب الذي قد يعتقد أن السخافات التي تناسب العصر الأميركي تناسبنا أيضاً. فشكراً لوزارة الإعلام ولكل الجهود الفاعلة في المهرجان.. شكراً للمخلصين لثقافتنا وحضارتنا.. هناك أخطاء وهناك عثرات, ولكن مهرجان الأغنية هذا العام تجاوز سابقه وصدحت الموسيقا في أرجاء القلعة تلقي السلام على أهلها وتنحني لصليل التاريخ العريق على عتباتها وكل مهرجان وأنتم بخير.