وفي تحليل دوافع هذا التوجه وأبعاده, نجد أن غايته تكمن في التغطية على المأزق الذي انتهى إليه تحالف الحرب بنتيجة احتلاله للعراق وبدأ يرخي بظلاله الكثيفة على المستقبل السياسي للرئيس بوش وإدارته ولطوني بلير وحكومته, بعد سيل الانتقادات الجارف الذي ينهال عليهم من داخل أميركا وبريطانيا وخارجهما, وتأثيره على مجرى انتخابات الرئاسة الأميركية في ضوء تراجع شعبية بوش ونسبة المؤيدين لسياسته في أوساط الشعب الأميركي والحزبين الديمقراطي والجمهوري معاً, وكذلك على مستقبل طوني بلير وحزبه في الانتخابات البريطانية القادمة.
قبل التوجه نحو التفكير بإرسال قوات من الأطلسي إلى العراق للمشاركة في ائتلاف الاحتلال, كان الهدف الأميركي - البريطاني يتمحور حول تدويل الاحتلال عبر دفع الأمم المتحدة لإرسال قوات دولية تعمل تحت الإمرة الأميركية, وحين فشل هذا الهدف أمام امتناع دول العالم عن الاستجابة له ما لم تكن القوات الدولية تحت إمرة الأمم المتحدة, ظهر التوجه الأميركي -البريطاني نحو أطلسة الاحتلال على أمل أن يعوض هذا الأمر في حال تم تحقيقه عن فشل تدويل الاحتلال والفراغ الناشىء عن انسحاب اسبانيا من ائتلاف الحرب بعد خسارة أزنار وحزبه للانتخابات وفوز ثاباتيرو وحزبه فيها, وكذلك انسحاب عدد من الدول المؤتلفة بالحرب وتهديد دول أخرى بالانسحاب بعد نقل السلطة.
ومما يزيد في تفاقم المأزق الأنكلو -أميركي في العراق, اصطدامه بالاعتراض الفرنسي الذي يشكل رافعة الموقف الأوروبي ومحركه الأساسي, إذ منذ بداية التحرك الأنكلو- أميركي نحو اللعب بالورقة الأطلسية أبدت فرنسا ممانعة واضحة لهذا التحرك على خلفية إدراك هدفه الرامي إلى تنصل الإدارة الأميركية من مسؤوليتها عن النتائج الكارثية التي انتهت إليها حربها على العراق سواء في مستوى فشل أهدافها وافتضاح كذبها, أو في مستوى الآلام التي حملتها للشعب العراقي والخسائر الفادحة التي لحقت بقواتها المحتلة, أو في مستوى تدهور سمعتها الأخلاقية بعد فضائح تعذيب الأسرى العراقيين وأكذوبة تحرير العراق وأسلحة الدمار الشامل فيه وصلته بتنظيم القاعدة على نحو ما كشفه مؤخراً تقرير لجنة التحقيقات بأحداث الحادي عشر من ايلول/2001/ عندما قال بعدم توفر أدلة تشير إلى وجود علاقات بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة, وذلك في رد واضح على إحدى أبرز ذرائع الحرب وهي الادعاء من قبل رموز الإدارة الأميركية بوجود مثل هذه العلاقة, مما يعطي دليلاً إضافياً على طيف الخداع الواسع الذي جرى تغطية الحرب وتبريرها به, ويؤكد حقيقة أن الحرب لم تكن من أجل نزع أسلحة دمار شامل لم تكن موجودة في الأصل, ولا من أجل مواجهة خطر عراقي مزعوم على المصالح الأميركية والأمن الاقليمي والسلم الدولي, بل كانت فقط لأجل استراتيجية جديدة تستهدف السيطرة على المنطقة وإعادة تشكيل خارطتها السياسية, انسجاماً مع نزعة الأبطرة الأميركية.
وعلى خلفية هذه الحقائق مجتمعة, كانت فرنسا سباقة في التحذير من أطلسة الاحتلال, إذ سارع وزير خارجيتها ميشيل بارنييه إلى التحذير من الانعكاسات السلبية لنشر قوات حلف الأطلسي في العراق, لجهة خشيتها على الأطلسي من التورط في حرب لامصلحة له فيها, وخشيتها من أن تتحول دول عديدة بحكم عضويتها في الأطلسي إذا ما تم زجه في أتون الحرب العراقية إلى شريك في الاحتلال يحمل وزره ويخفف الكثير من أعبائه في حرب كانت ولاتزال موضع رفض شعوب أوروبا والعالم لها وإدانتها.
تحالف الغزو يعمل في كل الاتجاهات الخاطئة ويدير ظهره للاتجاه الصحيح كيلا يعترف بخطئه الجسيم في احتلال العراق, فهو يكابر في نفي حقائق الحرب وتكريس أضاليلها, ويشترط على نقل السلطة بسيادة محدودة, ويعد بالخروج من العراق لكن دون مواعيد محددة ويتذرع لذلك بما يسميه ضرورات ضبط الأمن على نحو ما اعترف به وولفويتز مؤخراً, ويطرح خيار أطلسة الاحتلال مخرجاً لمأزقه بدلاً من خروجه منه بإنهاء احتلاله بسرعة وإعطاء الدور الأساسي في ترتيب الأوضاع للأمم المتحدة.
ترى هل تدرك الدول الأعضاء في حلف الأطلسي مخاطر الورطة المبيتة لها من وراء محاولة استدراجها إلى المستنقع العراقي, فتقتفي أثر الموقف الفرنسي في وعي هذه المخاطر حرصاً على مصالحها الأساسية ودرءاً لخطر التورط في أزمة لم يكن لها دور في افتعالها , وتفادياً للانزلاق نحو خيار فاشل هو خيار أطلسة الاحتلال ..?