لقد ظهرت هذه التنانير على الطرقات العامة بعدما غابت من القرى وأصبحت مجرد ذكرى , لأن معظم النساء الريفيات من الأجيال الجديدة لا يتقنّ صنع الخبز بالطريقة اليدوية ,لأنها عملية شاقة وتحتاج الى صبر وعناية وتحمل الحرارة ولفحات النار.. إضافة إلى أن تكلفة خبز التنور مرتفعة نسبياً.
لكن ما الذي أحيا هذه الطريقة الشاقة بعدما كادت أن تنقرض من معظم قرانا إلا في حالات نادرة ..?!
طبعا الأسباب معروفة وهي بعيدة عن الرومانسية والحنين إلى الماضي والعودة الى التراث القروي, وهذه الأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى ,لأن هذه التنانير تؤمن دخلا معقولا لأصحابها والعاملين فيها ولاتحتاج الى رأس مال كبير لإقامتها وانشائها .
فيكفي أن يتوفر الطحين وبعض المواد الأولية الأخرى , وإقامة تنور بسيط مصنوع من الفخار المشوي, وأيضا وجود امرأة تتقن عملية العجن وتحضير الخبز , لأن من يقوم بعملية تحضير الخبز هن النساء وليس الرجال, وهذه عادة متأصلة في الأرياف وعند البدو, فالمرأة هي التي تجمع الحطب وهي التي تحضر الخبز بواسطة التنور أو الصاج..
لقد ساهمت التنانير المنتشرة في المناطق الساحلية وعلى الطرقات الجبلية في ايجاد فرص عمل للعديد من الأسر الريفية, دون الحاجة الى رأسمال يذكر , فرغيف الخبز يباع بعشر ليرات وكذلك الرغيف المحمر , وأصبح خبز التنور خبزا سياحيا يستطيع أن يضاهي ويتفوق على الخبز السياحي المصنوع في الأفران الحديثة, فمعظم زبائن هذا الخبز هم من السياح والمصطافين والعابرين تلك الطرقات التي أقيمت التنانير على جوانبها ,ولم يشك أحد من سعر هذا الخبز, بل يتم الإقبال عليه دون اعتراض أو تذمر .
وأصبح التنافس شديدا على إقامة التنانير , ويعتبرها البعض استثمارا مضمونا وليس فيه أية مخاطر لأنه لا يحتاج الى رأسمال كبير أو مغامرة مالية , ولا يحتاج أصحاب التنانير الى قروض هيئة مكافحة البطالة أو مصرف التسليف الشعبي أو المصارف الأخرى .. ويمكن أن نصنف هذه المشاريع ضمن المشاريع الأسرية الصغيرة التي تؤمن الدخل المعقول للأسرة .
صحيح أن معظم هذه التنانير موسمية , ويترافق وجودها بشكل خاص مع الموسم السياحي في الصيف, فتنتعش مع انتعاش الموسم السياحي وينحسر نشاطها في فصل الشتاء , فهي تعتمد على السياح والمصطافين والعابرين لتلك الطرقات .
ومادام خبز التنور مرغوبا لدى معظم الناس ,فلماذا لانشجع على إقامة تنانير دائمة في الأرياف وفي المناطق السياحية وإشادة هذه التنانير بشكل موحد وبمظهر يليق بتلك المناطق السياحية , كأن يتم سقفها بالقرميد وإقامة نماذج موحدة والإشراف على نظافتها من قبل البلديات والتأكد من جودة المواد المستخدمة والنظافة العامة .
ولا يعني بالاشراف عليها من قبل البلديات إضافة أعباء على أصحابها أو وضع العراقيل والتعقيدات والروتين ,بل تركها تعمل بحرية دون تدخل لأن أي تدخل مباشر يمكن أن يفسد هذه المبادرة الشعبية التلقائية ويقضي عليها ...