غير أن المسألة وفق تحليلات قادة المكاتب المتخصصة باستصدار النصائح لشارون قد تجاوزت الحسابات العادية, ولابد من انحناءة أمام تيار تشتد حركته باتجاه تغيير بعض المعطيات.
وعلى هذا الأساس ثمة حاجة لبعض الأصابع وليس كلها, وفي لغة النصيحة تلك ذاتها, هناك من يريد أن تكون كل الأصابع الإسرائيلية جاهزة للاختيار, وقد تكون عرضة للمحاولة تحت ضغط متتال من المتغيرات غير المحسوبة.
فعندما يعطي الإسرائيليون جائزة ترضية لباول المستقيل, حين وافقوا على مشاركة فلسطينيي القدس في الانتخابات الرئاسية الفلسطينية, فإن ذلك يعكس رغبة في تقديم قراءة إسرائيلية للمشهد مغايرة ومختلفة.
فالإسرائيليون لم يضطروا يوما لتعويم مسؤول أميركي مستقيل, ولا هم يفكرون في تقديم مزايا مجانية, وفي هذا الوقت بالذات, حيث هناك من يعتقد حتى في إسرائيل أنه لا بد منها وإن اختلف المعيار والحجم.
لذلك بدت المفاهيم عرضة لتبدلات متحركة وغير ثابتة, بل هي في طور التشكيل على أساس أن حكومة شارون المتداعية تحتاج إلى من تستند عليه, وهي عاجزة عن اسناد أحد أو تقديم مساعدة لأحد, وبالتالي فإن الاستنتاج الأولي كان يدور حول فكرة واضحة وبسيطة مفادها أن إسرائيل تستبق الضغط بالهجوم, وتدافع بالمبادرة, وتريد تقديم وسائل مغرية لرايس وطاقم الإدارة الأميركية الجديد وهي وسائل تفاوتت دلالاتها لقياس ردة الفعل, قبل حسم الأمور.
من هنا كان التقاطع الحاصل في الموقف الإسرائيلي شديد الوضوح, وأهدافه وغاياته أكثر وضوحاً, لأن حكومة شارون, أرادت تبديل الأدوار وتبادل المواقع, لتكون المهام الأميركية المقبلة أقل صعوبة...
هذا في التفسير المباشر- إذ تم قبوله على علاته- لكن التفسير الحقيقي لا بد أن يلامس حقائق أكبر من ذلك, وهي أن (الفورة) الدولية باتجاه الاهتمام بالوضع الفلسطيني وتطوراته, والحديث المتفائل عن خارطة الطريق وعملية السلام ذاتها تقرأ بشكل مختلف كلياً عن إسرائيل.
وهذه القراءة تقتضي أولاً وقبل كل شيء أن الإدارة الأميركية هي التي تحدد بل وتقرر حجم وشكل الاهتمام الدولي, وإن المعيار الإسرائيلي لأي موقف ينطلق من الفهم الأميركي وليس سواه, ويتحرك وفق الحاجة الأميركية, وكما تقتضي الرغبة الأميركية, وأي تفسير آخر مهما كانت نوازعه سيكون مغلوطاً ورديئاً أيضاً.
هكذا تقدم إسرائيل جائزة الترضية لباول, وتعد القادمين بعده أميركياً, بالجوائز الحقيقية إغراء وإيحاء, وربما دفعاً باتجاه ملء أي فراغ قد يفكر الآخرون في إشغاله, وحتى منعاً لأولئك من العمل الفعلي على إشغاله.
إلا أن ذلك لم يمنع من التساؤل عن محدودية تلك (الجوائز) ومخاطرها وهي ترمي فتاتاً لا يقي ولا يغني, لتعيد رمي الكرة بعيداً عن ملعبها, وليكن اللعب في ملاعب الآخرين وعلى المكشوف.
والأخطر, عندما نجد باول وقد انتشى بما أحرزه, وأن ينتشي الفريق الأميركي القادم بما يمكن أن تقدمه من جزئيات, تبقي الأمور الجوهرية على حالها, ولتتحول اللعبة كلها إلى الدوران في متاهة القشور, وخصوصاً في هذه المرحلة التي تحتاج إلى الوقت كله بجزئياته وتفاصيله لوقف تدهور الأوضاع أكثر مما هي عليه, ولوقف حالة التفجر القائمة, وأخيرا للتفكير بإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.