تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر

Attr

الخميس 25/ 11/2004م
أنيسة عبود
ربما هي العاصفة التي راحت تهز أغصان الصمت في الساحل السوري وتلقي بقشور الصيف على شاطىء زمن يركض ولا ينتظر أحدا.

وربما هو ذلك المطر العنيف الذي راح يغسل الشوارع المهملة والأرصفة الفوضوية ويقشر المدينة من رمادها وبقايا طلائها المتآكل.‏

بل: ربما هؤلاء الذين يركضون -خبط عشواء- باتجاه الكراجات الجديدة لاهثين وراء باص من باصات (الهوب هوب) حيث الأناقة المهدورة واللياقة المهدورة, وحتى كرامة المرء مهدورة, لأن هذه الباصات التي عادت من مقبرتها مزركشة بألوان التخلف والفوضى لا تعرف أن تحترم مدرسا ولا موظفا بربطة عنق ولا صبية أنيقة.. الكل عليهم أن يلهثوا, وأن يتسابقوا وأن يخبطوا في الوحل وبحيرات المياه الآسنة ليصلوا إلى أول مقعد يلقون بقهرهم عليه. متى يمشي هذا الباص الأنيق, النظيف! لا تسأل.. كيف -يعرّ- في المدينة ويملؤها بالمازوت المحترق الضار لا تسأل.. المهم أن يحشر المواطن روحه في هذا الباص قبل أن تحشره العاصفة مثل كيس النايلون في زاوية من زوايا المدينة المنقوعة بعوادم السيارات والوحل والعتمة والعطش.ربما هي العاصفة.‏

وربما هي المياه المقطوعة أو الكهرباء المقطوعة كلما اقترب المطر وهز الرعد البيوت.. وربما هي عاصفة الثلج التي استقبلتني وأنا في الطريق إلى دمشق حيث ارتمى البياض وساد الصمت أمام حبر الثلج الذي راح يكتب تحولات الزمن ويمحو حدود التذكر وحدود الوجد ويخلط الذاكرة بالأسماء, فما كان إلا أن ترنو وأنت في قفص زجاجي تشبه العصافير المسجونة إلى أفق يمتد من طفولتك إلى هذه اللحظة حيث كنت تأمل أن لا تقف مجبرا تراقب الثلج وهو يحاصرك ويقهرك ويقطعك عن العالم, فلا جرافة تقترب. ولا شرطي يهبط من الغيوم الملبدة بالإهمال.. ولا شاخصات تدل على الحواف الآمنة كي لا تهبط في واد أو تصطدم بصخرة.. كم تتمنى الآن في زحمة هذا البرد كأس شاي أو زوفا.. كم تتمنى لو أن استراحة تظهر من وراء الثلج.. أو أعمدة نور تقول لك: لا تخف نحن لا ننساك..‏

ربما.. لولا ذلك السؤال الذي كررته وأكرره منذ سنوات طويلة (لماذا) ربما كنت سأكتب قصيدة شوق لحبيب مرّ سريعا.. لم يترك للصفصاف أن يترجل وراءه.. ولم يترك لي متعة تكرار السؤال (كيف الحال?)‏

ربما لولا تلك العاصفة التي سيطرت على قلمي كنت سأكتب عن التفاصيل التي نفتقدها في المكان لذلك يصير للمكان ذاكرة.. وربما كنت سأكتب عن أمكنة تنحفر في القلب لأن الأحبة تركوا تفاصيلهم الصغيرة فيها -قهوتهم.. عطرهم.. بقايا أصواتهم.. لفتة أيديهم.. أو كنت سأكتب عن أماكن ماتت تفاصيلها أو ذوبتها عاصفة النسيان أو عاصفة الهجر أو الغدر فماتت تلك الأماكن في القلب. ليتني أستطيع هجر تفاصيل البحر وإهمال تفاصيل مدينتي البحرية.. عند ذلك لن أحزن إذا شلعتها العاصفة. ولن أسأل لماذا كل هذه الحفر المعمرة في شوارعها الرئيسية. وربما سأغفر لذلك الإهمال في كل مكان بحيث يهدر كرامة المرء.. وقد أنسى طابور الأسئلة الذي يواعدني كل صباح وأنا في طريقي إلى دوامي.. لماذا لا يوجد أناس مغرمون بمدنهم? لماذا -نشحد- من المسؤولين- ردم حفرة. أو وضع شارة على الطرقات .. أو تنصيف الطرقات السريعة لتجابه الضباب والعاصفة. ولماذا يتضايق المسؤولون إذا ذكرناهم بواجباتهم?! هي عاصفة.. مجرد عاصفة عابرة.. فماذا لو كانت زلزالا -لا قدر الله? ماذا لو كانت أفظع من ذلك?! وماذا لو تناسيت كل هذه المنغصات المتكررة وكتبت لحبيبي الذي (خربطت) شعره العاصفة فمشطته بأناملي الحالمة.‏

 

 أنيسة عبود
أنيسة عبود

القراءات: 30273
القراءات: 30270
القراءات: 30270
القراءات: 30276
القراءات: 30274
القراءات: 30268
القراءات: 30265
القراءات: 30286
القراءات: 30283
القراءات: 30281
القراءات: 30278
القراءات: 30275
القراءات: 30276
القراءات: 30278
القراءات: 30276
القراءات: 30280
القراءات: 30275
القراءات: 30279
القراءات: 30293
القراءات: 30273
القراءات: 30273
القراءات: 30277
القراءات: 30271
القراءات: 30280
القراءات: 30280
القراءات: 30277
القراءات: 30276
القراءات: 30290

 

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية