وربما هو ذلك المطر العنيف الذي راح يغسل الشوارع المهملة والأرصفة الفوضوية ويقشر المدينة من رمادها وبقايا طلائها المتآكل.
بل: ربما هؤلاء الذين يركضون -خبط عشواء- باتجاه الكراجات الجديدة لاهثين وراء باص من باصات (الهوب هوب) حيث الأناقة المهدورة واللياقة المهدورة, وحتى كرامة المرء مهدورة, لأن هذه الباصات التي عادت من مقبرتها مزركشة بألوان التخلف والفوضى لا تعرف أن تحترم مدرسا ولا موظفا بربطة عنق ولا صبية أنيقة.. الكل عليهم أن يلهثوا, وأن يتسابقوا وأن يخبطوا في الوحل وبحيرات المياه الآسنة ليصلوا إلى أول مقعد يلقون بقهرهم عليه. متى يمشي هذا الباص الأنيق, النظيف! لا تسأل.. كيف -يعرّ- في المدينة ويملؤها بالمازوت المحترق الضار لا تسأل.. المهم أن يحشر المواطن روحه في هذا الباص قبل أن تحشره العاصفة مثل كيس النايلون في زاوية من زوايا المدينة المنقوعة بعوادم السيارات والوحل والعتمة والعطش.ربما هي العاصفة.
وربما هي المياه المقطوعة أو الكهرباء المقطوعة كلما اقترب المطر وهز الرعد البيوت.. وربما هي عاصفة الثلج التي استقبلتني وأنا في الطريق إلى دمشق حيث ارتمى البياض وساد الصمت أمام حبر الثلج الذي راح يكتب تحولات الزمن ويمحو حدود التذكر وحدود الوجد ويخلط الذاكرة بالأسماء, فما كان إلا أن ترنو وأنت في قفص زجاجي تشبه العصافير المسجونة إلى أفق يمتد من طفولتك إلى هذه اللحظة حيث كنت تأمل أن لا تقف مجبرا تراقب الثلج وهو يحاصرك ويقهرك ويقطعك عن العالم, فلا جرافة تقترب. ولا شرطي يهبط من الغيوم الملبدة بالإهمال.. ولا شاخصات تدل على الحواف الآمنة كي لا تهبط في واد أو تصطدم بصخرة.. كم تتمنى الآن في زحمة هذا البرد كأس شاي أو زوفا.. كم تتمنى لو أن استراحة تظهر من وراء الثلج.. أو أعمدة نور تقول لك: لا تخف نحن لا ننساك..
ربما.. لولا ذلك السؤال الذي كررته وأكرره منذ سنوات طويلة (لماذا) ربما كنت سأكتب قصيدة شوق لحبيب مرّ سريعا.. لم يترك للصفصاف أن يترجل وراءه.. ولم يترك لي متعة تكرار السؤال (كيف الحال?)
ربما لولا تلك العاصفة التي سيطرت على قلمي كنت سأكتب عن التفاصيل التي نفتقدها في المكان لذلك يصير للمكان ذاكرة.. وربما كنت سأكتب عن أمكنة تنحفر في القلب لأن الأحبة تركوا تفاصيلهم الصغيرة فيها -قهوتهم.. عطرهم.. بقايا أصواتهم.. لفتة أيديهم.. أو كنت سأكتب عن أماكن ماتت تفاصيلها أو ذوبتها عاصفة النسيان أو عاصفة الهجر أو الغدر فماتت تلك الأماكن في القلب. ليتني أستطيع هجر تفاصيل البحر وإهمال تفاصيل مدينتي البحرية.. عند ذلك لن أحزن إذا شلعتها العاصفة. ولن أسأل لماذا كل هذه الحفر المعمرة في شوارعها الرئيسية. وربما سأغفر لذلك الإهمال في كل مكان بحيث يهدر كرامة المرء.. وقد أنسى طابور الأسئلة الذي يواعدني كل صباح وأنا في طريقي إلى دوامي.. لماذا لا يوجد أناس مغرمون بمدنهم? لماذا -نشحد- من المسؤولين- ردم حفرة. أو وضع شارة على الطرقات .. أو تنصيف الطرقات السريعة لتجابه الضباب والعاصفة. ولماذا يتضايق المسؤولون إذا ذكرناهم بواجباتهم?! هي عاصفة.. مجرد عاصفة عابرة.. فماذا لو كانت زلزالا -لا قدر الله? ماذا لو كانت أفظع من ذلك?! وماذا لو تناسيت كل هذه المنغصات المتكررة وكتبت لحبيبي الذي (خربطت) شعره العاصفة فمشطته بأناملي الحالمة.