والمشهد الحالي المفجع والمروع الذي تنتهك فيه العتبات المقدسة وتستباح الساحة وأمن وكرامات الناس, وتتساقط فيه هذه الأرقام الكبيرة من المدنيين إضافة للتدمير الذي لم يوفر شيئاً, وإن كان في أحد وجوهه يعكس مأزق الاحتلال السياسي والعسكري, والفشل حتى الآن في تسويق وفرض مشروعه, ويدحض زيف الشعارات التي حاول عبثاً ترويجها وتسويقها تبريراً للغزو تحت تسميات /الديمقراطية والتحرير والإنقاذ/, فإنه في الجانب الآخر, وفي الاستخدام المكثف لآلة الحرب المتطورة, رسالة أخرى, لكل من يرفض الاحتلال في الشارع العراقي وخارجه وعلى مستوى العالم, أن لا حل سياسياً للوضع إلا وفق رؤية ومشيئة واشنطن وإملاءاتها, تلك التي تصر على الاحتواء والتركيع ومصادرة حرية وقرار هذا البلد وإعادة رسم خارطة جديدة له.
لقد أفرزت الأحداث الدموية والمأساوية في الساحة العراقية وطيلة عام ونصف من الاجتياح لأراضيه, جملة من الحقائق يجري عن عمد تجاهلها وإغفالها ومحاولة القفز فوقها, في مقدمها تأكيد استحالة التعايش مع الاحتلال والقبول به وبثقافته, مما يدفع بالضرورة إلى اللجوء لخيارات أخرى عناوينها الصدام والمقاومة, باعتبارها الرد الطبيعي والمنطقي والحق المشروع الذي كفلته القوانين والشرائع الدولية وحضت عليه, ولم يستطع حتى سيد /البيت الأبيض/ جورج دبليو بوش المدافع حتى اللحظة وبعناد عن قرار شن الحرب إنكاره, وأقر به سواء من حيث يريد أم لا في أحد تصريحاته وخطبه قبل فترة حين قال: إنه لا يستطيع أن يتصور بلاده خاضعة للاحتلال..
ما تتخوف منه قوى الحرية والسلام ومعارضو الحرب في العالم وحتى في الداخل الأميركي, ألا تندفع الأمور والأوضاع في العراق نحو المزيد من التأزيم ونقطة اللاعودة, وأن تأخذ الاستراتيجية السياسية والعسكرية الأميركية في اعتبارها وحساباتها, حالة الغليان الشعبي العام وتلك الموجات والسلاسل والدروع البشرية التي تدفقت على النجف, وخرجت بالآلاف في الشوارع من البصرة جنوباً إلى كركوك شمالاً مروراً بالعاصمة بغداد والفلوجة منددة بالعدوان, وتتوقف قبل فوات الأوان عن التعاطي مع الشعب العراقي بلغة الحديد والنار, وتحترم حريته وسيادته وقراره تحاشياً لمذبحة جديدة ومجزرة تلوح في الأفق, وحقناً للدم المسفوك الذي بات لا يحتمل الصمت والوقوف على الحياد, ويستجر ردود فعل مضادة يعرفون جيداً أنها تزيد في تأجيج وإلهاب وتعميم ظواهر السخط والكراهية والعداء لأميركا.
صحيح أن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية واحتدام معركة التنافس فيها, قد يلهب حماس صقور الإدارة الحالية واليمين المتصهين فيها واندفاعهم في اتجاه الحسم المؤجل, وتحقيق ما يسمونه بنصر عسكري يمكن استخدامه كورقة للفوز بولاية جديدة, إلا أن هذه المراهنة المحفوفة بالمخاطر والقائمة على أنقاض بلد, لم يستطع أحد أن يقدم دليلاً واحداً على أنه كان بمقدوره أن يشكل في وقت من الأوقات تهديداً للولايات المتحدة وأمنها القومي, ليست بالأمر الذي يمكن التعويل والبناء عليه كأسلوب ذي جدوى, في كسر إرادة الشعوب وقهرها وإذلالها والمس باستقلالها وحرمة أوطانها, وجعلها تلقي أسلحتها وتشرع أبوابها في وجه الاحتلال..