أبدا, ليست هذه اللحظة الأميركية الكبرى, إلا إذا كانت اللحظة الإسبارطية وحيث الآلهة تنفث النار. يا للمصادفة الفذة, ألسنا أمام أدمغة النار?
كلنا أخذنا الدهشة, وأخذتنا الدهشة إلى أبعد حدود الإنسان, ونحن نرى ذلك المظهر الأسطوري في افتتاح الأولمبياد. هذه هي عبقرية السلام, ولا نقول عبقرية التسوية, في اللاوعي البشري. إذا, لماذا تكون مسافة المقابر (ومن يصنعها?) بين الحضارة السومرية بتجلياتها التي هي تجليات الأزل, وبين الحضارة الإغريقية حيث أرسطو وأفلاطون وسقراط وأفلوطين الباحثون عن أسئلة البدايات والنهايات?
أيها السيد الأميركي, إن هوميروس أعمى فكيف لكم أن تفقؤوا عينيه?
اثينا استعادت أجزاء من الإلياذة, حاولت أن تظهر أن ثمة قداسة للحياة, والأمل, وأن ثمة قلوبا تدق وراء الصخور, أو وراء الأساطير. يا للهنيهة الدموية في مكان آخر. عودوا إلى ألواح الطين واقرؤوا المرثيات السومرية الكبرى.
على كل الضفاف, وعلى كل النخيل, وعلى كل الخيول التي مرت من هناك: من يصنع مرثيات الدم في العراق?
هذه (ماكنة) تصنع كل المنتجات التي في آخرها دوي الدم. إن ريجيس دوبريه يقف مذهولا: (انظروا إلى تلك الأصابع, إنها تلطخ حتى عظام الدهر?).
كيف يمكن للبشرية, وأمام ذلك المشهد الأثيني الذي يستحضر كل تقنيات الحكمة, القبول بأن تكون الكرة الأرضية غابة إسبارطية مرصعة بالجثث?
يا أثينا الجميلة, والمعذبة, والحالمة كما كل المدن المتوسطية, أليست ينيلوب, وهي تنتظر اوليس, أول من أعطى معنى فلسفيا للعبث. لكنه العبث الذي ينطفىء فيه القلب, أو يتأجج, من أجل قلب آخر. هل لنا أن نعثر في ذلك الحقل الإسبارطي على بقايا قلب?
أثينا أعادتنا إلى بدايات عيوننا. أخيرا يذوب آلهة النار وليقول نيكوس كازانتراكي, وهو يحمل هاجسا غامضا بانتمائه إلى جذور عربية: (يا سيدي الله... متى تضع حدا لأحصنة الملح?).
أجل, أجل, من الفارق, أيها الشاعر الإغريقي (العربي) الرائع بين أحصنة الملح وأحصنة الدم?
أثينا بقيت أثينا. ميكيس تيودور اكيس قال: (أحيانا, نزعد الهواء بكثرة الأزهار). هذه هي لحظة العالم تحت عيون -وحجارة- الاكروبول. ونسأل نحن عرب الجوار: أثينا بقيت أثينا, فلماذا انتقلت إسبارطة إلى واشنطن?
انتقلت وأصبحنا جميعا تحت قبة الدم. أين هو المنطق (أي منطق?) في ذاك الذي يحدث في العراق. دم, دم, دم. هل قال أحدكم (يا محمد مهدي الجواهري ويا بدر شاكر السياب) إن دجلة يقتات بالدم?
ذاك الذي يحدث أكبر بكثير من أن يكون استراتيجية تصنعها المصالح وإن كانت أفواه الذئاب فاغرة دوما.
أنها الاستراتيجية التي تصنعها الثقافات الملطخة والرؤوس الملطخة, والأيدي الملطخة التي جعلت روجيه غارودي يقول ذات يوم: (الأفضل أن نضع أرواحنا في حقائب محكمة ونغادر هذا العالم).
نتركه لمعماريي الدم? بل نبقى, ونبقى, ونقول للمرثيات السومرية الكبرى: أخلوا ذاك المكان -الذي في اللغة- للغضب... وأغضبوا!