ورغم العرف السياسي الذي يدلل على أن الحملات الانتخابية كانت دائماً بمثابة هوامش واسعة للمكاشفة والمصارحة بالنسبة الى الأحزاب ومرشحيها, وللتعريف بالبرامج السياسية والنيات المبيتة لها ولهم, يبذلون خلالها كل الأسرار والحقائق أمام الناخبين, رغم هذا, فإن هذا العرف هو الأكثر زيفاً ورياءً في حملات الانتخابات الأميركية, لا لأن الديمقراطية الأميركية هي موضع شك وريبة ولا لأن الأميركيين غير ديمقراطيين, بل لأن التجربة التاريخية مع الانتخابات الأميركية عامة, والرئاسية منها خاصة, دللت على أن زبدة الحملات الانتخابية في أميركا لا تلبث أن تذوب, ومعها شعاراتها ووعودها وسوبرماناتها, عند أول شمس تشرق على الساكن الجديد في البيت الأبيض,ومع استثناء وحيد هو الزبدة الأميركية المخصصة لإسرائيل والإسرائيليين, فإنها لا تذوب, بل تتصلب وتقسو مع كل نزيل جديد في البيت الأبيض.
ولعل حرب فيتنام واحدة من الشواهد التي تكشف زيف ورياء الدعاية أثناء الحملات الانتخابية الأميركية, فما من رئيس وصل الى البيت الأبيض خلال سنوات تلك الحرب الا ووعد في حملته الانتخابية بإيقافها ولملمة جراحها, لكن أحداً لم يوقفها حتى توقفت لسبب لم يكن انتخابياً البتة, ولا كان قراراً رئاسياً أو ارادة شخصية لرئيس أميركي بعينه, توقفت لأن الاستراتيجية السياسية الأميركية في منطقة الهند الصينية تبدلت وتبدلت معها حسابات القسمة والطرح, والتي كان في مقدمتها الاستحالة التي بلغها الأميركيون في إمكانية حسم الانتصار أمام صمود الفيتناميين واستمرار مقاومتهم.
ثمة استراتيجية سياسية أميركية تجوب العالم على مدار الساعات والسنين والعقود, تمتطي حاملات الطائرات أو أوراق البنكنوت.. لا فرق, لكنها ليست رهن تغيير أو تبدل الرئاسات في البيت الأبيض, ولا هي رهينة الاختلافات الجزئية وغير الظاهرة بين الديمقراطيين والجمهوريين إنها استراتيجية الاحتكارات ورؤوس الأموال الجوالة, التي تدفع الى محرقها كل شيء, ودون أن يظهر من هذه التراجيديا أي شيء. وإذا كانت الحرب التي أشعلها الرئيس بوش في العراق خطأ في المكان الخطأ والتوقيت الخطأ بالنسبة الى جون كيري, فلأنها ربما - وحسب ما تردد على لسانه منذ ترشيحه - لم تكن أوسع من رقعة العراق ولم تعلن قبل الحادي عشر من أيلول!!
وعلى هذا النحو, فلعل وعود كيري بالانسحاب من العراق هي على شاكلة وعود بوش بسحب القوات الأميركية من أوروبا, لا لتعود الى أميركا بل ليعاد توزيعها في منطقة النفط الخليجية الآسيوية?