ولعل المعطى الأهم هو ذاك الجدل الذي سيثيره احتمال أن يأتي الاستفتاء مغايراً للاتجاه, ولا سيما تلك الدول ذات الثقل المؤثر, لأن مجرد التفكير فيه كان كافياً لإثارة قلق عبرت عنه الأوساط الأوروبية بوضوح.
والتهديد بإلغاء عضوية أي دولة يرفض الاستفتاء فيها هذا الدستور, يفتح الباب أمام سجال سياسي, لن يتوقف عند حدود التداعيات المرتبطة بأوروبا الموحدة, بل سيعزز من المفاهيم التي طفت على السطح, ومفادها أن التوقيع بحد ذاته, يشكل إنجازاً سياسياً يعادل سائر الإنجازات التي حققها الأوروبيون بما فيها إطلاق اليورو..!
غير أن الإنجاز يبقى ناقصاً وغير مكتمل, بحكم أن المدة الفاصلة لاعتماده ستبقى عرضة لتطورات سياسية في غاية الأهمية, وستؤثر بعمق في الاتجاه الوحدوي لدى الأوروبيين, ولا سيما بعد أن يأخذ الجدل مساراً انتقادياً للكثير من النواقص التي تطال مواد الدستور ذاته.
ويأتي ذلك بالتوازي مع أسئلة تكاد لا تتوقف عن حدود الفاعلية السياسية لإطلاق الدور الأوروبي على الساحة الدولية, وسط تكهنات واستنتاجات تتحدث عن أفق جديد للفعل الأوروبي وتأثيراته يتجاوز الموقع التقليدي المحدود في زاويته الضيقة التي أملاها التفرد الأميركي.
وبغض النظر عن معطيات البحث المسبق عن ذرائع للتقليل من شأن الخطوة الأوروبية, فإن مسارات العلاقة عبر الأطلسي, وعطفاً عليها اتجاهات العلاقة مع دول المتوسط, تترك انطباعاً قوياً, بأن تحولات مهمة ستشهدها الرؤية الأوروبية, وإن كانت تلك التحولات موضع تساؤل مشروع حتى الآن, على ضوء الاحتمالات المتعددة التي تحكم فرضية تطبيق الدستور الأوروبي في العام .2007
لذلك كان لابد من التوقف عند الصيغ السياسية الموازية التي تطرح كبدائل لاحتمالات الإخفاق الأوروبي في رسم الصورة التي يتمناها الأوروبيون, وهذه البدائل وفق التصور الأوروبي ذاته هي أقل إشراقاً, وحتى أقل طموحاً, وتبرز في تحديد إطار يتحكم بالدور الأوروبي ومساحة مساهماته.
وإذا كان من حق الأوروبيين النظر إلى توقيع الدستور الموحد كخطوة مفصلية في مسيرة الوحدة الأوروبية, فإنه أيضاً وبالقدر ذاته من حق القوى والأطراف الأخرى أن تنظر بجدية إلى الانعكاسات المحتملة, الإيجابي منها والسلبي, على أن هذه النظرة لا تفضي بالضرورة إلى بروز التحديات, بقدر ما تقود إلى البحث عن صيغ جديدة للتعاطي مع الواقع الأوروبي المحتمل.
من هنا كانت الشكوك الأميركية ظواهر جدية لخشية أفرزتها معطيات البروز الأوروبي كقوة لها امتداداتها الفعلية على الساحة الدولية, وتعكس رغبة في شغل كامل المساحة التي تمليها هذه القوة.
فيما تأخذ نظرة بقية القوى والأطراف, شكل التمنيات حيناً والطموح حيناً آخر بأن يكون التحول في الموقع الأوروبي لمصلحة المساهمة في التخفيف من اختلالات المشهد الدولي القائم في ظل هيمنة أميركية تستبيح كل المحظورات.
لذلك تبدو كل الأسئلة رغم مشروعيتها جزءاً من هواجس تشغل العالم بقواه وأطرافه وشعوبه, في حين أن إشارات الاستفهام العديدة التي طرحها التوقيع على الدستور الأوروبي, حالة انكماش مبررة تحكمها إلى حد بعيد تداعيات التجربة الغضة -بمرارتها وهواجسها- حول المشهد الدولي الذي تستنفر الأدوات والوسائل والأوراق لإعادة تشكيله.