فكما في أجواء حرب فيتنام كان المطلب المحوري للشارع الأميركي هو وقف الحرب وحمام الدم الناجم عنها, وإسقاط كل المسوغات التي جرى تغليفها بها, كذلك فإن مظاهرات الأمس الأميركية طرحت المطلب نفسه عبر شعارات تقول (كفانا بوش.. لا لاقتصاد الحرب.. أعيدوا جنودنا..لادماء من أجل النفط.. بوش يكذب والآلاف يموتون), ما يعني أن حرب العراق آيلة إلى النتيجة ذاتها التي انتهت إليها حرب فيتنام, و لاسيما بعد أن أثبتت المقاومة العراقية قدرتها على مقارعة الاحتلال وقلب حساباته.
ولعل أول ما يستدل عليه بهذه المظاهرات وشعاراتها هو أنها رسالة الشعب الأميركي,أو لنقل رسالة الأميركيين الرافضين للحرب على العراق كتعبير عن رفضهم لسياسة إدارتهم الحالية, وإذا كان عدد المتظاهرين تجاوز المائتي وخمسين ألفاً في مدينة نيويورك, فهذا يعني وبالاستدلال أيضاً أن دائرة الرفض الشعبي الأميركي لسياسة بوش من الاتساع إلى درجة تشير إلى أن الوضع الانتخابي للرئىس بوش لايطمئن, لأن عدد المتظاهرين يمكن أن يشكل معياراً للوقوف على شعبية بوش وعدد الذين يمكن أن يصوتوا أو لا يصوتوا له بعد شهرين.
والشعب الأميركي حين يرفع صوته في مواجهة سياسة إدراته, كما فعل غير مرة في مواجهة السياسة نفسها تجاه فيتنام, فهو لايفعل ذلك بتأثير من حملات الدعاية الانتخابية والسجال السياسي الدائر بين قطبي هذه الحملات (الحزبان الجمهوري والديمقراطي) بل يفعله بتأثير التداعيات الخطيرة لسياسة الرئيس بوش التي يصوغها ويحدد اتجاهاتها, لكنه يفشل في إنجاز أهدافها, تيار المحافظين الجدد المأخوذ بأوهام الأبطرة والسيطرة ونزعة التفوق والاستعلاء والمكابرة,والمتحالف مع إسرائيل.
وحقيقة هذا التأثر تتجلى أكثر ما تتجلى في وقوف الأميركيين على فضائح الحرب في العراق بدءاً من أضاليل أسلحة الدمار الشامل وخطر العراق على المصالح القومية الأميركية والاستقرار الإقليمي والدولي, وعلاقته المزعومة بتنظيم القاعدة,وانتهاء بالسقوط الأخلاقي المريع في انتهاكات أبو غريب, وعودة عشرات الجنود الأميركيين بالنعوش إلى بلادهم لهدف حقيقي لم يتجرأ دعاة الحرب وهواتها في الإدارة الأميركية على البوح به, وهو السيطرة على النفط وإعمار العراق بعد تدميره لاستدرار الأرباح الخيالية من وراء ذلك, وإخضاع الشرق الأوسط برمته لهيمنة سياسة الغطرسة.
ولعل نداء توم تيتوس حاكم ولاية ايداهو الذي أطلقه أمس وطالب فيه بخروج القوات الأميركية من العراق وهو يجهش بالبكاء حزناً على ابنه الذي قتل قبل أيام في العراق بين عداد الجنود الذين يقتلون كل يوم,يختزل الكثير من مضمون رسالة الغضب التي حملتها تظاهرات الشعب الأميركي لمؤتمر الحزب الجمهوري, وإن اكتفى بتعبيره عن غضبه بالنحيب المحزن.
وحين يقول الرئيس بوش في خضم هذا الغضب وهذه التداعيات المثيرة له إنه الشخص الذي يصنع التاريخ, ألا يحق للعالم أن يعرف أي تاريخ هو الذي يصنع أميركا الآن للبشرية..?
وجواباً لانجد غير الفصل الأشد مأساوية من التاريخ البشري هو ما يصنع في العراق وأفغانستان, وهو ما يمكن أن يطغى على كل تاريخ البشرية في حال استمر بوش في صنعه, وهو كذلك لأنه تاريخ يكتب ظلماً بدماء العراقيين والأميركيين, وتصنعه سياسة مبنية على الكذب والخداع والتضليل,ومن يدري لعل الغضب الاميركي هو بداية محاولة جادة لوقف هذا التاريخ الأسود.
ولأن تلك هي حقائق ما يحدث, وتلك هي رسالة الغضب الأميركي عبرت عنها جموع ترفض الحرب وتنشد السلام, يصبح من واجب العالم كله وقد تأثر سلباً بسياسة القوة والحرب والهيمنة, أن يعلي صوته تضامناً مع الشعب الأميركي في ندائه من أجل السلام.