وزعمت إدارتها أن مجازر كبيرة حصلت في إقليم دارفور وأشغلت العالم كله- ومعه مجلس الأمن الدولي- بهذه القضية, مدعية أن ما جرى هناك لا يمكن تسميته إلا بالإبادة الجماعية.
ورغم أن المبعوثين الدوليين والإفريقيين وكل المنظمات والهيئات الإنسانية التي زارت الإقليم واطلعت على الأوضاع هناك أكدت بطلان الادعاءات الأمريكية وزيف سيناريوهات الإبادة الجماعية, إلا أن واشنطن ظلت مصرة على مواقفها معتبرة أن الآلاف سقطوا ضحايا الصدامات القبائلية ومحملة الحكومة السودانية مسؤوليتها, وفي الوقت ذاته وضعت كل ثقلها لحمل الدول الكبرى على معاقبتها وحصارها وتهديدها بإمكانية استخدام القوة العسكرية ضدها.
والمفارقة التي نقصدها هنا ليست فقط قلب واشنطن للحقائق وإصرارها على لصق تهمة الإبادة الجماعية بالحكومة السودانية رغم عدم وجود مثل هذه الإبادة المزعومة, وإنما تسمية الإبادة الجماعية التي حصلت في العراق فعلا بحرب التحرير وتخليص الشعب العراقي من الدكتاتورية.
فالولايات المتحدة شنت حربها الظالمة على الشعب العراقي بذريعة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل, ومن أجل تحقيق الحرية له, لكنها قتلت أكثر من مئة ألف عراقي منذ بدء الحرب وحتى الآن باعتراف مجلة لانست الأمريكية التي أشارت في أحد تقاريرها إلى أن هذا الرقم قابل للزيادة لأن التقديرات الحقيقية لأعداد الضحايا ومعظمهم من النساء والأطفال- تفوق هذا الرقم بكثير.
والسؤال الملح هو: إذا كان هدف الحرب الأمريكية على العراق هو تحقيق الأمن والحرية لشعبه وتخليصه من الدكتاتورية, فأي أمن هذا الذي يحصد في أقل من سنة ونصف أكثر من مئة ألف من البشر, ويدمر البنية التحتية لأكثر من خمسة وعشرين مليونا من السكان, ويقضي على مؤسساتهم وممتلكاتهم?!.
ثم إذا لم يكن التوصيف الحقيقي لمثل هذا الرقم المرعب من البشر ب¯ (الإبادة الجماعية) فما هو الرقم الذي يمكن للإدارة الأمريكية أن تجعلها تصفه بالإبادة الجماعية?.
لقد احتلت الولايات المتحدة العراق للسيطرة على نفطه وثرواته والتحكم بموقعه الاستراتيجي لإعادة رسم خارطة المنطقة بما يتناسب مع مصالحها ومصالح إسرائيل معها, فدمرت مدنه وقراه, وقتلت عشرات الآلاف بشكل عشوائي, مدعية أن هدفها هو تحرير الشعب العراقي وتصدير الديمقراطية إليه, متجاهلة أن ما قامت به هو إبادة حقيقية لهذا الشعب ولإمكاناته وطاقاته الهائلة.
ولا يبدو في الأفق ما يبشر بإمكانية تبديل هذه السياسة, وما الهجوم العسكري الكبير الذي تقوم به القوات الأمريكية هذه الأيام على الرمادي وإعدادها العدة لاجتياح الفلوجة- مع ما يعنيه ذلك من قتل وجرح وتشريد الآلاف من سكانها- إلا الدليل الساطع على ذلك.