أقول إن هناك تاريخاً آخر يقرؤه القارىء أو يمكن أن يقرأ وله مصداقية أو صدقية أكبر هو الذي تشف عنه الفنون والآداب عامة والشعر خاصة.
ذلك لأن الشعر بخصوصيته هو التعبير الأصفى والأكثر حرارة وحماسة عن الوجدان والمشاعر..
وعن الأفكار والخواطر أيضا. فلو أردنا أن نستشف صورة حقيقية وصادقة عن المجتمع العربي مثلا في فترة زمنية محددة كالعصر العباسي أو الأموي أو حتى المملوكي أو العثماني فإن علينا إن نعود إلى هذا التراث الضخم من الكتب وما ورثه الوارثون.. أو تركه الأقدمون..
علينا أن نرجع حتى إلى الصور والاستعارات وماذا كانت تعني لدى الناس, بل إلى الكلمات والألفاظ نفسها..
فالأسماء التي تحمل مدلولات معينة تحملنا في الوقت نفسه إلى عالم آخر من التوصيف الحضاري للمجتمع العربي.
هل يمكن مثلا ونحن نقرأ شعر أبي نواس أو قصص ألف ليلة وليلة إلا أن نتوقف أمام كلمة ما.. أو اسم ما.. هو بحد ذاته بوابة العالم? لعالم من القيم الاجتماعية أو المعايير الأخلاقية أو العادات والتقاليد, أو ربما أساليب الحياة في العلاقات بين الناس ,وفي المداولات اليومية في البيع والشراء وفي الطعام والشراب أو غيرها من أمور الحياة?
وربما نتساءل: كيف يكتب تاريخنا الآن?
هل يكتب بالصور والوثائق والأفلام عبر الصحافة ووسائل الإعلام والكاميرات? ومن الذي يكتب هذا التاريخ?
إن التزوير الواقع أصلاً في العرض يصل إلى الجوهر, فإذا بأجيالنا في المستقبل تتناول هذا التاريخ كما لو أنه حقائق دامغة مادام مشفوعا بالأرقام والإحصائيات والأفلام وبكلمات الذين يصنعون هذا التاريخ أنفسهم?
إن خطرا ما يتربص بنا إن لم نكن قادرين على أن نفرز تاريخنا المعاصر من اليسار إلى اليمين.. وأن نميز فيه بين الغث والسمين.. وبين القمح والزؤان.. بين ما يثبت المزاعم والأكاذيب على أنها حقائق..
ومن يطمس الحقائق حتى تختفي عن الأبصار والبصائر..
ونظرة خاطفة إلى ما تروج له وسيلة إعلام ما.. وما تبثه نظيرة لها على الخط المقابل تكشف لنا كم أن موقفنا دقيق وصعب وخطير.. أمام هذه الفوضى أو هذا الشر المستطير.
وها نحن نعيش فترة تاريخية من أدق الفترات التي تمر بها أمتنا.. ونشهد حروبا.. واحتلالاً.. وسلسلة من الأخطاء الفادحة والتي تصل إلى حد الجريمة بالنسبة لحقوق الإنسان.. ومع ذلك فإنها تطمس أحيانا أو تغيب أو لايشار إليها إلا بشكل باهت.. حتى كأنهم يريدون أن ننسى ماهو واقع تحت السمع والبصر, وما أصبح معروفا من الصغير والكبير على حد سواء, وكأنها ليست أخطاء.. ويمكن للتاريخ أن يدونها على أنها النقيض بمسميات مختلفة ذات مدلولات مغايرة تماما للحقائق كما هو الحال بين الإرهاب والمقاومة المشروعة, والاحتلال والتحرير أو غير ذلك.
إن تاريخنا مكتوب بدمائنا ورجفات أصابعنا.. فهلا حافظنا عليه خالصا دون أن نفسح المجال لمن يريد له التزوير أو التبرير?