فلا القتل الجماعي ولا القصف العشوائي, ولا الحصيلة النهائية للمجازر كانت كافية لتليين الرؤوس الحامية في واشنطن, وحتى مؤشرات الفشل الأميركي المتزايدة لم تخفف من اندفاع فريق الحرب.
والأسئلة المعكوسة لا ترتبط بنتائج العدوان الأميركي, ولا بالنتاج الذي تعلق عليه اليافطات, كما سبق أن علقت الشعارات في البنتاغون لخوض الحرب, بكل تداعياتها, إنما هي في الدروس والعبر.
وإذا كان العالم يميل بغالبيته إلى القناعة بأن الأميركيين غير معنيين بتلك الدروس, بقدر اهتمامهم بصيرورة تطلعهم الكوني والإمبراطوري, فإن الحديث عن ضرورة الاستفادة من الدروس يبدو غير مجد في وقت تتضافر المعطيات لتطلق الفصل الآخر من المتاهة.
لعل المتاهة هنا لا تتحرك وفق سيناريو مرسوم بل هي ترسم خطوطها وفق المأزق ذاته, بمعنى أن تفاقم المأزق هو الذي يحدد مساحة المتاهة, وحتى اتجاهاتها وأبعادها إلى درجة أن الكثيرين أضحوا يتوقعون شكل المتاهة وأفقها.
فقد سبق أن كانت هناك دعوات بعد الورطة الأميركية التي اتضحت في احتلال العراق, وتتكرر الدعوة ولو بشكل مختلف, بعد كل خطأ تقدم عليه القوات الأميركية وإثر كل عملية تفاقم للمأزق, ولكن أحداً -حتى الآن- لم يلمس استجابة أميركية, بل ثمة ردود ساخرة من تلك الدعوات.
والمسألة كما هي في الفلوجة, مرشحة للتكرار في مدن أخرى, والتحضيرات المتتالية توحي بذلك, ورغم أن القتل والفظائع لم تقدم حلولاً, بل تنتج مآزق, فإن الأميركيين يصرون على معالجة الخطأ بآخر لا يقل عنه, ويعالجون المأزق, بخلق مآزق أشد, وتتالى المشاهد تباعاً.
لذلك بدت كل الأسئلة مقلوبة ومعكوسة, وجاءت الاستنتاجات أو محاولات الإجابة على تلك الأسئلة كذلك مقلوبة ومعكوسة في إيحاءاتها, ومغلوطة في القناعات التي تتركها.
وربما كان القادم هو الآخر استكمالاً لما حدث, أو هو تطوير لما حدث, وتلك هي المعضلة في التعاطي, وإذا كانت هناك بعض الأمنيات بحدوث تغييرات في الاستراتيجية أو التكتيك في الولاية الثانية للرئيس بوش, فإنها بدت أشبه بالسراب, أو هي السراب فعلاً.
من هنا تبرز التحديات والمعضلات وفق نسق واحد, وتبرز المخاطر في النسق الآخر المقابل في متوازية من التداعيات المتلاحقة, لأن السيناريو الذي يرسمه الواقع العراقي يبدو مختلفاً, ومغايراً لكل السيناريوهات المرسومة.
مرة أخرى كانت الفلوجة الشاهد, وثمة شواهد أخرى لا يمكن حصرها في نطاق محدود, ولا في إطار جغرافي معزول, بل هي قراءة لواقع عراقي عام لا يمكن الفصل بين مشاهده وحلقاته.
ربما كانت الحاجة الفعلية تستدعي إعادة طرح الأسئلة وفق صيغها السليمة, وربما كان الإلحاح الذي تنطوي عليه يفرض الإطار الدقيق لتلك الأسئلة.
ولكن هذه الحاجة وذلك الإلحاح لم يتمكنا بعد من تسجيل حضورهما, أو فرضه كما تقتضي التطورات, أو لأن منتجي الحرب وصناعها ما زالوا يراهنون على الوهم وحتى الأسطورة, والكثير من الغيبيات التي عادت لتتصدر المواقف والتصريحات الصادرة في واشنطن..!.