نقرأ هذا الكلام لوول سوينكا, النيجيري الحائز جائزة نوبل في الآداب, ولكن لنكتشف -عندنا- أن ليس الأقدام وحدها التي تهاجر. أقدام المستقبل بطبيعة الحال, كذلك الرؤوس و.. رؤوس الأموال.
منذ نحو قرن زرعوا تلك القنبلة (وعد بلفور) لاستنزافنا بل ولتحطيمنا. كل ما يمكن تصوره , فعله ذلك (الوعد) فينا, وبدا, كما رأيتم بالعين المجردة, كما لو أن الغروب الكبير للقرن هو الغروب الكبير للأمة. إذاً, كل ما نفعله الآن هو أننا نلعب, بما تبقى لدينا من السيدة الببغاء, داخل الغروب...
ثمة قنبلة أخرى في الظهر (أم في الرأس?). ذلك الشرق الأوسط الكبير الذي كان العرب, كحملة ثقافة, بل وكما وصفنا جاك بيرك (حملة الله), هم أول من أوجدوه, لا مثلما يطرحه اليوم أكلة لحوم البشر, وبمعنى الكلمة, وما دمنا قد علمنا كيف يفكر بول ولفوويتز وصحبه. لعلنا نستعيد هذه العبارة لطاغور: (حين تتراقص الأظافر حول.. الروح). في حالتنا: حين تتراقص الأظافر حول... المستقبل.
أين هي أظافرنا?
يعترينا الذهول, بل وذلك الإحساس الذي تعدى الصدمة, حين نعرف كم هي كمية المال العربي المودعة في صناديق الغرب والتي لا يأتينا منها سوى الفتات. نصدم أكثر حين نعلم كم هي كمية الأدمغة العربية (المودعة) في المؤسسات والمختبرات والجامعات والمصارف الغربية.
حقا إنه لأمر يثير الفزع...
ندرك تماما لماذا رحيل الأدمغة. لا, ليس السبب جاذبية المال, ودون إغفال ذلك بطبيعة الحال, ولكن أين للأدمغة أن تجد مكانا في العديد من الدول العربية, مادمنا نعلم كيف نتراكم في الزمن, وكيف نحل الرؤوس الفارغة محل الرؤوس الخلاقة, وكيف تحكمنا عقدة النقص (حيث الأولوية للخبير الأجنبي ولو كان أميا), وكيف ننتزع إنسانية الإنسان, بأسناننا أيضا. أليست قهقهات الاسنان أشد هولا من قهقهات المناجل?
المال مسألة أخرى. إنه فينا القبيلة, وإنه فينا العصر الحجري. ألم تستيقظ فينا الجاهلية بقضها وقضيضها حين استيقظ فينا المال? ذهب المال العربي إلى كل العالم, وفي أحيان كثيرة إلى مواخير العالم, ولم يذهب إلى العرب. بعضه استقر في الصناديق البعيدة وجلا, ودون أن نحمل أصحاب المال وحدهم مسؤولية القيام بعملية (التهريب) هذه, فنحن مسؤولون حين نعيش فوضى التشريعات, وفوضى التخطيط. ألا تختال البيروقراطية عندنا في بطن العنكبوت?
رؤوس.. رؤوس أموال تهاجر. المستقبل يصرخ, يا أصحابنا, أساقفة ذلك السراب -وصولا إلى السراب اللغوي- المسألة لا تنتهي, كما اعتدنا, بالكلمات البراقة, ولا باستنهاض الهمم على طريقة قس بن ساعدة, وإنما في وضع استراتيجية لاستعادة الرؤوس ورؤوس الأموال التي نحن بأشد الحاجة إليها لاستدراك ما أمكن استدراكه. ولكن ألا يحدث العكس فعلا? إن كل شيء فينا يهاجر.
لن يبقى هناك سوى الهياكل العظمية. بقايا الهياكل العظمية, أيها الوطن العربي الجميل...
انظروا, بانوراميا, إلى هذا المشهد العربي. هل يمكن للزمن أن يصدأ هكذا? يا صاحبي, اللغة صدئت أيضا. حتى هجرة اللقلاق لم تعد بحاجة إلى دقات قلوبنا!