ومع أن العالم كله, بحكوماته ومنظماته الحكومية والإنسانية ومراكز بحوثه ودراساته, قد حذر من تلك النتائج الوخيمة التي سيخلفها الاحتلال الأميركي- البريطاني للعراق, وأشارت منذ البداية إلى صعوبة حصر أبعاده المدمرة على مستقبل الشعب العراقي, إلا أن الإدارة الأميركية لم تلتفت إلى تلك التحذيرات ولم تنظر بجدية إلى خطورة زعزعة الأمن والاستقرار في مرحلة ما بعد الاحتلال, بل انصب همها الوحيد على شيء واحد, وهو تنفيذ استراتيجيتها هناك وحساب كم مليون برميل من النفط ستضيف إلى رصيدها البترولي بعد السيطرة على المخزون العراقي الهائل.
والأمر ذاته انسحب على السنوات الطويلة التي سبقت الاحتلال الأميركي للعراق, فقد عملت عواصم العالم ومنظماته الإنسانية والقانونية كل ما بوسعها لإبعاد شبح الحصار الظالم عن الشعب العراقي وحاولت تخليصه من جحيم المحن التي خلفتها العقوبات الأميركية الجائرة لكن الحرص الأميركي على متابعة الحصار إلى أقصى حدوده, كان أسبق من أي محاولة دولية تصب في الاتجاه المعاكس, والإجراءات الأميركية على أرض الواقع كان صوتها أعلى من أي صوت أو نداء.
هذا الإصرار الأميركي على احتلال العراق والاستمرار في استخدام القوة العسكرية بقصد تطويع الشعب العراقي واخضاعه لمشيئته السياسية الأميركية, وقبوله بمخططات الاحتلال وأدواته وأهدافه هو الذي أوصل الحالة الأمنية إلى هذا الحد الخطير من التدهور, بحيث أصبح من النادر أن يمر يوم -منذ بداية الاحتلال- دون أن تشهد المدن العراقية انفجار السيارات المفخخة والاغتيالات والقصف الأميركي المكثف والعشوائي للأحياء السكنية مخلفا مئات القتلى والجرحى والمشردين من الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء.
وبالطبع فإن نتائج غياب الأمن لم تقتصر على قتل العراقيين وتشريدهم ونزوحهم بل أدت إلى تعطيل إعادة الإعمار وإلى انسحاب معظم المنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة من هناك لأن الاستمرار بعمل تلك المنظمات أشبه بمهمة انتحارية بسبب أعمال الخطف والاغتيالات.
ورغم كل محاولات الاحتلال تجميل الواقع الأليم بشعارات تحقيق الديمقراطية ونشر الحرية إلا أن الوضع الأمني المتردي أذاب كل المساحيق عن تلك المحاولات اليائسة, وأظهر حجم المأساة التي يعيشها الشعب العراقي, وهو ما يستدعي من حكومات العالم وقواه الحية التحرك فورا -وخصوصا قبيل انعقاد المؤتمر الدولي حول العراق في -شرم الشيخ- للخروج بموقف موحد يضع حداً لتلك المأساة الرهيبة.