| قصة الشعر معاً على الطريق حين وضعت أسس برنامج حاسبي لتقطيع الشعر عروضياً في جامعة الكويت عام 1983 لم يكن يخطر ببالي كل تلك الأمداء التي ستتفتح أبوابها أمامي, لكن بعد أن جرى استخدام البرنامج بدءاً من عام 1984 وتواصلت عمليات تطويره وبعد أن جرى عرضه في عدد من المعارض والمؤتمرات العلمية بدءاً من عام 1985 أخذ البرنامج يتنفس ليقتحم ميادين رحبة واسعة. في أوائل التسعينيات زارني الصديق د.سعد الله آغا القلعة الخبير البارز في شؤون الحاسب والمعلوماتية واطلع على مختلف البرامج الحاسبية التي وضعتها من برنامج الترجمة الآلية إلى برنامج القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف إلى برنامج النسب وغيرها من البرامج. ورغم إعجابه الشديد وحماسه الواضح الذي تجلى في تحدثه بحرارة مشكوراً في التلفزيون حول برامجي إلا أنه شكك في أن يكون لغير برنامج الترجمة الآلية قيمة عالمية, وحقيقة الأمر أن الظرف لم يكن مناسباً وقتها للخوض في التفاصيل, وأنتهز هذه الفرصة لأتناول جانباً من مسألة العالمية في ما يخص برنامج الشعر. وبصراحة أقول إنني لم أضع برنامجاً حاسبياً لتقطيع الشعر عروضياً اعتماداً على احتياجات الشعر أو العروض العربي بل وضعته وفق نظام عالمي شامل يعتمد على العلاقات الصوتية البحتة, وقمت بوضع مجموعة من المعادلات الرياضية وعدد ضخم من السلاسل الرقمية الكفيلة بتقطيع الشعر في أي لغة من لغات العالم, ولقد نجحت في تقطيع الشعر عروضياً عبر برنامجي الحاسبي في عدد من اللغات أهمها العربية والسريانية والفارسية والأوزبكية والأوردية والتركية والكردية والأرمنية والألمانية والروسية والانكليزية وكشفت عن التقاطعات الهائلة في الأوزان والتفعيلات والبحور بين هذه اللغات وتوصلت إلى استقراء أولي بأن ثمة حوالي 150 بحراً تستخدمها البشرية في لغاتها المختلفة وأن ثمة تقاطعات في بعض البحور بين عدد من اللغات, كما هو الحال تماماً بالنسبة للتقاطعات التي تخص الأصوات والحروف. وقد كشفت الدراسات الحاسبية التطبيقية أن بحر مجزوء الوافر هو الأكثر شيوعاً بين اللغات التي تعاملت معها, ثم يأتي بعده بحر الرمل, ورغم أن المسألة تبدو غريبة جداً وغير مسبوقة ومفاجئة وغير مألوفة لكن لابد من إعطاء بعض الأمثلة, وإن كانت المسألة برمتها صعبة ومعقدة وجافة. التقاطع في بحر مجزوء الوافر بين الشعر العربي وبين الشعر الفارسي هو الأكثر لعدة أسباب أهمها هو أن حافظ الشيرازي والذي هو أهم شاعر أنجبه الفرس نظم قصيدة على هذا البحر فيها بيت عربي يتبعه بيت فارسي وذلك في قصيدته الشهيرة: ألا يا أيها الساقي أدر كأساً وناولها كه عشق اسان نمود أول ولى أفتاد مشكلها وباستطاعة الاختصاصيين بعلم العروض التأكد بسهولة من أن هذين البيتين اللذين هما من لغتين مختلفتين هما من بحر مجزوء الوافر والذي من أبرز أبياته نشيد: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان حين ندخل إلى امتدادات بحر مجزوء الوافر في اللغة الانكليزية تواجهنا إشكاليات الحركات وأحرف المد, ومع ذلك فإن الأغنية الفولكلورية الانكليزية الشهيرة والتي مطلعها: I saw you toss the kite on high هي صوتياً من بحر مجزوء الوافر وتقطيعها (أسو يو تس ذكيت أن هي), وتفعيلاتها مفاعيلن مفاعيلن. أما بالنسبة للغة الروسية فتعترضنا مشكلة الصوت الساكت المزدوج, ومع ذلك فإن قصيدة بوشكين الذائعة الصيت (فكلوبيني سبيرسكي خروت خرانيتي غوردي تربينيه) هي من بحر مجزوء الوافر وقد جرى تقطيعها بشكل كامل عبر برنامجنا الحاسبي بعد حل مشكلة الصوت الساكت المزدوج. أما بالنسبة لبحر الرمل فهو شائع على نطاق واسع وأهم نشيد في اللغة الكردية هو على هذا البحر ومن أجمل ما كتب عليه باللغة الفارسية البيتان اللذان قالهما محمد الفاتح بعد سقوط القسطنطينية على يديه حيث قال: بوم نوبت ميزنت در تارم أفراسياب برده زاري ميكومنت در قصر قيصر عنكبوت وبإمكان أي قارىء أن يوازن هذين البيتين مع نشيد البعث: يا شباب العرب هيا وانطلق يا موكبي أما بالنسبة للغة السريانية فإن قصيدة (ابن العبري) الذائعة الصيت والتي مطلعها: فغعبو بعلمو طليثو دمغهر فإنها من بحر المتدارك, لكن الأجمل من ذلك هو التداخل التراثي الثر والعميق بين التراث السرياني والتراث العربي, فالأغنية الشعبية السريانية ذائعة الصيت والتي مطلعها: شافرشون شافيرونو من دهبو يا قيرونو, مكافئة وزناً ولحناً لأغنية الأسطورة فيروز والتي مطلعها: يا غزيل يابو الهيبا مرحبتين ومرحيبا. وبمناسبة التعريج على الشعر العامي أقول بما أن برنامجنا الحاسبي لتقطيع الشعر عروضياً قائم على علاقات بحت صوتية وفق أسس رياضية ورقمية فهو لا يفرق بين الفصحى وبين العامية. ولقد تطرقت إلى هذا الموضوع في مقال نشرته في صحيفة تشرين بتاريخ 23/1/2000 تحت عنوان (شيء من رد الاعتبار للأدب الشعبي) تطرقت فيه إلى قضايا إشكالية, لكن أبرز ما في ذلك المقال هو أنني أخذت ثلاثة أبيات للأمير بدر بن عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود وهي: ما بقا لي قلب يشفع لك خطية ذوبته جروح صدك والخطايا صاحبي بالله لا تعتب علي العتب ما عاد تاسعه الحنايا كل جرح فات لي منك هديه وش بلاك تخاف من رد الهدايا وبإمكان أصحاب الاختصاص أن يتحققوا من أن هذه الأبيات من بحر الرمل وعلى وزن: فاعلاتن, فاعلاتن, فاعلاتن, دون وجود أي علة أو زحاف. ما أدهشني حقاً هو برنامج (شاعر الشعراء) الذي تستضيفه دمشق بنوع من التناقض العجيب, بدعوتها إلى دعم الفصحى وترويج العامية, وما أزعجني حقاً هو الخلط بين مجموعة من شعراء النبط المحدثين الذين لا يفهم شعرهم واحد بالألف من العرب على أكثر تقدير وبين شاعر الشعراء المتنبي الذي دخل في تراثنا ووجداننا وثقافتنا وتشربت شعره حواسنا وجوارحنا وعقولنا. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي سيفعله رابح مليون الدولار غير ممارسة مزيد من الرفاهية الشخصية? أما السؤال الثاني فهو إلى متى سيتحكم البترو -دولار بتراثنا وثقافتنا وتقاليدنا ومستقبلنا? لو جرى إنفاق عشر هذه الجائزة وليس عشر الإنفاق العام الهائل على هذه المسابقة لخرجنا بأول موسوعة عن الشعر النبطي الشفهي, والذي هو بالغ الأهمية بحد ذاته, ولخرجنا بمعجم مفرداته وشرحناها وترجمناها ورددناها إلى أصولها الفصيحة, وإن هذه الفوضى هي ما أسميه تبديد المال العام على مشاريع وهمية على الصعيد المحلي أو العربي أو الاسلامي. حين بدأت مشروعي لإعادة بناء التراث العربي عام 1985 كانت لجنة اللغة العربية مؤلفة من الراحلين سعيد حورانية وعدنان بغجاتي وممدوح عدوان ومن علي كنعان أطال الله عمره. كان سعيد وعدنان خريجي أدب عربي لكنهما لم يكونا شاعرين, وكان ممدوح وعلي خريجي أدب إنكليزي لكنها كانا شاعرين بارزين, وبما أن الأربعة كانوا تقدميين ومحسوبين على اليسار وعلى الفكر الثوري كان تصوري أننا سنخرج بنتائج مهمة على صعيد إعادة بناء التراث العربي وإعادة إنتاج المعرفة والثقافة من دون أي عقد أو خلفيات, لكن العمل الميداني أثبت أن هذه اللجنة واقعة قسراً تحت ما يمكن تسميته بالاتباعية والتقليد. وبما أن الحاسب كان يقطع كل بيت من الشعر فإن الإشكال بدأ مع بيت للمتنبي هو: لا يحزن الله الأمير فإنني سآخذ من حالاته بنصيب وجوهر الإشكال تركز على أن صدر البيت من بحر الكامل وعجزه من بحر الطويل, وبعد مداولات معقدة داخل اللجنة وصلنا إلى حل بأن صدر البيت يجب أن يضاف إليه حرف (الفاء) بحيث يصبح: فلا يحزن الله الأمير فإنني...وعندها يستقيم الوزن. وحدث بعد أن زارني الصديق د. عبد اللطيف فرفور واطلع على مجموعة برامجي وموسوعاتي أن طرحت عليه هذا الإشكال فقال لي مباشرة لا تتعب نفسك يا صديقي فحين تعترضني مثل هذه الحالة أضع حرف الواو أو الفاء فيستقيم الوزن, لكن التقطيع الكثيف للحاسب أثبت أن جوازات وجود فعل - فعلُ - فعلن إضافة إلى فعولن في بحر الطويل هي بالمئات, وهي جواز أصلي يجب ألا يشوه بإضافة الواو أو الفاء من قبل المحدثين. ما أدهشني فعلاً هو إن هذه اللجنة التقدمية للغة العربية لم تعلن ثورتها مرة واحدة على المناهج البالية للجامعات التي تخرجت منها, بل أعلنت ثورتها فقط في نقاشات آيديولوجية فارغة بين بعثيين وشيوعيين وماركسيين واشتراكيين وقوميين وناصريين وليبراليين...إلخ في قضايا لا تنفع تطور المجتمع وتركت الواقع كما هو دون أدنى تغيير, وسمحت للأصوليين والمتحجرين أن تتحكم برقابنا ومصيرنا إلى أن وصلنا إلى الحال المزري الذي وصلنا إليه. ما أعادني إلى موضوع الشعر هو الإعاقات القسرية التي فرضت علي في مشروع المعجم الشامل لأدبيات السيد الرئيس بشار الأسد. ويتلخص جوهر المشكلة بأنني ما زلت بحاجة إلى ثلاثة عشر عنواناً من أدبيات سيادته لم أحصل عليها بعد, وهي تعوق نشر موسوعة تنوف عن عشرة آلاف صفحة تتعلق بتاريخ ووقائع البلد وليس بسيادته فقط. وعملاً بالشفافية المتناهية التي يمارسها الرئيس بشار الأسد في معالجة مختلف الأمور فإنني أعلن أن مجموعة من أصحاب الشأن والمتنفذين وعدوني بتسليمي هذه العناوين الناقصة لكنهم لم يوفوا بالتزاماتهم. كتبت عدة مقالات حملت عناوين مثل (بؤس الأكاديمية العربية والإسلامية) و (مثقفون جهلة ومنظرون أميون) لكن من أهم ما كتبته في هذا السياق أو المجال هو مقال تحت عنوان (الجبروت العلمي) وخلاصته أننا نعيش تحت جبروت سياسي وأمني ومخابراتي وديني ومذهبي وآيديولوجي ومالي واقتصادي وأمريكي وصهيوني وإسرائيلي...إلخ فلماذا لا نمارس الجبروت العلمي, وأعتقد أنه آن لنا أن نتخلص من الأدبيات البازارية والسوقية والعوامية التي تختزلها كلمات مثل: ...مشيها...مرقها...لا تدقق...من أريبو... وإلى ما هنالك من مفردات سوقية تعكس سايكولوجية أشباه المتعلمين والمثقفين والمحققين والأكاديميين. وخلاصة القول إنني لن أطبع الموسوعة الشاملة لأدبيات سيادة الرئيس بشار الأسد من دون أن تكتمل العناوين الكاملة وسأمارس هذا الجبروت العلمي طالما عندي عرق ينبض.
|
|