| قراءة أولية في الاستراتيجية السورية (22) قراءة بنيوية لخطاب القسم معاً على الطريق ونظراً لأهمية هذه المسألة وخطورتها رأيت أن استعرض بعض أوجه هذا الالتباس والغموض ضمن نوع من الاستعراض التاريخي الوجيز, فحين صدر كتاب الأدب والأيديولوجيا في أواسط السبعينيات للصديقين بو علي ياسين رحمه الله ونبيل سليمان أطال الله عمره والذي عالج مسألة البنيوية لأول مرة في سورية أثار نوعاً كبيراً من الجدل واللغط و السجالات و المشاحنات في الأوساط الثقافية, وعلى الأخص أن ملحق الثورة الثقافي الذي كان يحرره الصديق الراحل محمد عمران آنذاك كان قد وصل إلى أوجه عبر تناوله لقضايا إشكالية ساخنة كالبنيوية والحداثة ومشاركة أبرز المفكرين والأدباء في معالجتها وعلى رأسهم الشاعر أدونيس. ونتيجة للصخب والمشاحنات والمهاترات دعوت بعض الأصدقاء لمناقشة هذه المسألة بهدوء في بيتي, الذين أصبحوا جميعاً اليوم في عداد الراحلين, رحمهم الله جميعاً, وهم سعد الله ونوس وسعيد حورانية ومحمد عمران وممدوح عدوان وهاني الراهب, وبعد نقاش دام عدة ساعات لم نخرج بأي نتيجة, وكانت خلاصة رأيي الشخصي أننا ما زلنا بحاجة إلى التأسيس الأكاديمي المحكم المعزز بالبيانات لبناء أرضية صلبة لإجراء مثل هذه الحوارات الإشكالية المعقدة, ولم يكن الحاسب معروفاً في تلك الأيام. وبعد بضع سنوات فوجئت بالصراع العنيف الذي دار بين ثلاثة من أقطاب الفكر والفلسفة وهم الصديق الطيب تيزيني وجورج طرابيشي وعابد الجابري, حيث وصل الأمر إلى حد الاتهام ورفع الدعاوى القضائية, وكان السؤال الممض الذي يدور في خلدي آنذاك هو: إذا كان ثلاثة من أبرز رموز اليسار والتقدم والعلمانية والتنوير وصل بهم الأمر إلى هذه المواصيل فكيف لهم أن يحاوروا أو يناقشوا أو يقنعوا الطرف الآخر الذي يتدرج ويتشكل من الوسطية والرجعية والسلفية والأصولية والانغلاقية والظلامية والتكفيرية? وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي صرت على يقين تام بأن الساحة في العالمين العربي والإسلامي ستكون خالية للتيارات الدينية بأشكالها المختلفة, وأن القوى التقدمية واليسارية والعلمانية والتنويرية ستخسر مواقعها بانتظام, وأنه ربما فات الأوان للقيام بشيء حقيقي لإعادة التوازن أو ترميم الوضع. إن كلمة (بنيوية) هي ترجمة للكلمة الأوروبية structuralization ومصطلح (بنية تحتية) هو ترجمة للمصطلح الأوروبي infra structure وإن أحد أسباب غموض هذه الكلمة من الناحية الاصطلاحية في ميدان السياسة والأدب هو غموض كلمة (خطاب) اللصيقة بها, فالشائع أن كلمة خطاب هي رسالة يبعثها إنسان أو كلمة يلقيها أمام الناس أما خطاب بمعنى Discourseوالذي يعني المنظومة الفكرية الشاملة بما تحمله من أسس ومبادىء ومنطلقات وثوابت وميول فمازالت ملتبسة وغامضة. وفي الوقت الذي تميز فيه النخبة بين الخطاب الديني والخطاب القومي والخطاب الشيوعي والخطاب الليبرالي فإنها تجهل أو تتجاهل أن ضمن كل خطاب من هذه الخطابات مجموعة متنوعة ومتضاربة ومتباينة من الخطابات, فهل يعقل أن نتحدث عن خطاب إسلامي موحد ومتميز عن غيره من الخطابات ضمن هذه التشرذمات والاحترابات والاقتتالات القائمة على قدم وساق بين المسلمين? وبداية أقول إن خطاب القسم للرئيس بشار الأسد ليس خطابه السياسي, مع أنه يشكل جزءاً مهماً منه, فخطابه السياسي هو خلاصة وعصارة تجربة سياسية استمرت ثلاث عشرة سنة ,حيث تكون هذا الخطاب ضمن إطار جدلي بالغ التعقيد نتيجة للظروف الاستثنائية التي مر بها العالم كله وعلى رأسها أحداث الحادي عشر من أيلول, وأود التفريق هنا بين الخطاب السياسي لسيادته وبين مجمل أدبياته, ففي حين تصل مجمل أدبياته إلى حوالى أربعمئة ألف كلمة فإن خطابه السياسي لا يقوم على أكثر من بضع مئات من المفردات المفتاحية. وتبقى البنيوية في أرضيتها وأساسياتها شيئاً شبيهاً بالتصوير الشعاعي أو بالتحاليل الطبية التي لا يجوز التدخل في معطياتها من قبل أي طرف من الأطراف, لكن قراءة واستقراء المعطيات هي من حق الجميع. ورغم أن كلمة (بنيوية) لم ترد في أدبيات الرئيس بشار الأسد لكن مكوناتها كانت ظاهرة بشكل لافت في أدبيات سيادته, فلقد وردت مفردة بنية 24 مرة ووردت مفردة بنى 12 مرة, واللافت أن صفة (تحتية) كانت بارزة بمعنى ورود بنية تحتية 8 مرات وبنى تحتية 5 مرات. وقبل الدخول في التفاصيل العلمية الجافة التي لا يسمح بها هذا المقام أود الإشارة إلى أننا نعتمد في عملنا المعجمي والبنيوي على ثلاثة مصطلحات 1- الكلمة- 2- المفردة 3- الوحدة الكلامية. وانطلاقاً من القاعدة العلمية والفقهية القديمة التي تقول لا مشاحة في المصطلح, والتي تعني أنه يحق لك أن تستخدم مصطلحاتك الخاصة طالما أنك تلتزم بالتوصيف الدقيق الذي تضعه لها أقول: الكلمة هي التي توجد بين فراغين في أي نص فكلمات مثل.. كتبتم.. أستكتبون..كتبناها هي كلمات مختلفة تعود إلى مفردة واحدة هي كتب وهي قريبة هنا من مفهوم الجذر, والفرق بين المفردة وبين الجذر أن مفردات مثل ابراهيم .. استبرق.. سندس.. تعتبر مفردات ولا تعتبر جذوراً. أما الوحدة الكلامية فهي مجموعة من المفردات التي تشكل معنى عضوياً واحداً متكاملاً مثل: مازال.. لا شك.. ابن مريم.. أبو لهب.. الجمهورية العربية السورية.. الأمم المتحدة..أسلحة الدمار الشامل, وتنضوي المفردة في هذا الإطار تحت مظلة الوحدة الكلامية, بحيث يبقى لدينا نوعان فقط هما:1- الكلمة 2-الوحدة الكلامية. وانطلاقاً من هذه المفاهيم والمصطلحات والتعريفات المعجمية والبنيوية فإن خطاب القسم الثاني لسيادته يأتي في المرتبة الثانية في قائمة أدبياته بواقع 9552 كلمة و8878 وحدة كلامية ويأتي في المرتبة الأولى قبله كلمة سيادته أمام مؤتمر الأحزاب العربية الرابع الذي انعقد في دمشق بتاريخ 4/3/2006 بواقع 10100 كلمة و 9519 وحدة كلامية. أما خطاب القسم الأول فيأتي بالمرتبة السادسة عشرة في قائمة أدبيات سيادته بواقع 5040 كلمة و4683 وحدة كلامية, وعليه فإن الخطاب الثاني يعادل قرابة ضعف الخطاب الأول ويزيد عنه ب 4512 كلمة و 4195 وحدة كلامية. لا يسمح هذا المقام على الإطلاق بإجراء أي قراءات بنيوية حقيقية, وأستميح القارىء العزيز العذر لتأجيل هذه القراءات المستفيضة ريثما يصدر كتاب من قرابة المئتي صفحة تحت عنوان (دراسة تحليلية مقارنة لبنيوية خطابي القسم) والذي سيشتمل على المعاجم الشاملة, وأمل أن يكون بين أيدي القراء الأعزاء خلال بضعة أيام. ومع ذلك فإن استعراض تكرار بعض المفردات باقتضاب هو مفيد لإعطاء صورة أولية عن مفهوم البنيوية. 1- مفردة »شورى) لم ترد في مجمل أدبيات سيادته, ووردت مرتين في خطاب القسم الثاني تحت صيغة »مجلس الشورى) ولا بد من التوقف طويلاً عند هذا المصطلح الجديد الذي انضم للخطاب السياسي لسيادته. 2- كلمة »وديعة) وردت أربع مرات في أدبيات سيادته قبل خطاب القسم الثاني وذلك ضمن خطاب واحد هو خطاب سيادته أمام قمة بيروت بتاريخ 28/3/,2002ثم عادت بعد أكثر من خمس سنوات لتتكرر مرتين في خطاب القسم الثاني, في حين أن كلمة »مدريد) التي تكررت قرابة 80 مرة في أدبيات سيادته غابت عن هذا الخطاب, الأمر الذي يحتاج إلى دراسة سياسية معمقة. 3- تطرق سيادته مرة واحدة قبل خطاب القسم الثاني إلى إحصاء عام 1962 الخاص بالأخوة الأكراد في سورية وذلك في مقابلة مع محطة سكاي نيوز التركية بتاريخ 27/12/,2005 لكنه ذكر هذا الاستفتاء ست مرات في خطاب القسم الثاني, وهذه المعلومة مطروحة للجميع وعلى رأسهم إخوتنا الأكراد. لن أطيل كثيراً وأعتقد أن هذه الإشارات والشواهد كافية, لكن ما أود قوله في نهاية المطاف أنني لن أسمح بعد الآن بمزيد من مؤامرات الصمت التي تحاك ضد المشاريع العلمية الحقيقية وسأحاربها بكل شراسة, فتبديد المال الوطني العام على مشاريع أكاديمية وهمية وزائفة وكسيحة, إن لم يكن خيانة عظمى فهو من أبرز مظاهر الفساد التي أفرد الرئيس بشار الأسد حيزاً واسعاً للحديث عن طبيعتها وتموضعاتها وآلياتها وسبل مكافحتها وشن الحرب عليها. burhanboukhari@gmail.com
|
|