وكأن السنين لم تغيّر كثيراً في هذا الريف الجميل لكنه تطور وتقدم.. وتعلم أبناؤه لا في الجامعات العربية فحسب بل في الجامعات الأجنبية.. وأصبح للمرأة دورها البارز في الحياة الاقتصادية والاجتماعية هناك نتيجة لما مر بنا وبمن حولنا في البلاد العربية من الأحداث وقد أنضجت تلك الشخصية الريفية المتميزة للمرأة.
والتف حولنا شبان كأنهم النجوم يحملون أفكاراً في التقدم الاقتصادي والاجتماعي لم نعرفها عنهم عندما كنا نحن في طور الشباب. وما إن جاء رب الأسرة الكبير في السن لينضم الينا حتى لاحظت الأدب والاحترام وتلك التقاليد المغروسة في نفوس الشبان كما الأشجار الفتية من حولنا.. وراق لهذا الأب أن يحدثني عن ذكرياته في الثورة السورية في العشرينيات من القرن الماضي.. وبما أنه يعرفني معرفة جيدة فما كان بحاجة الى أن يعرّف لي الأشخاص الذين دافعوا عن بلادهم ضد المستعمرين والصهيونية التي كانت تتغلغل في بلادنا.
وأنا الجامعية آنذاك التي كانت مشغوفة بأخبار وطنها وبشخصياته المعروفة حتى الخمسينيات كما كنت أعمل جاهدة على تسجيل لقاءات صحفية مصورة معها.. وكان أبرزها لقائي مع بعض قادة الثورة تلك. وأخذ الأب يروي بهدوء وثقة أحداثاً تفصيلية لم يعرفها إلا الذين عاشوا تلك الفترة أو اندمجوا فيها أو قدموا لها بعض التضحيات. ولما سألته: كيف كنتم تمدون المقاتلين بالطعام والشراب والاحتياجات الخاصة دون هذه الأساليب التي نعيشها الآن في التنقل والاتصال والهواتف بشكل خاص؟ ضحك وقال: كل أهالي قرية ما في هذه الغوطة التي لا ينسى نضالها كان مرصوداً لخدمة أولئك دون أن يفسدوا سياق حياتهم الاعتيادية وعاد الرجل يضحك وقد تألقت عيناه ببريق غريب كأنما عاد الى شبابه الأول والى تلك الظروف التي انحسرت بفضل الوطنية الصادقة التي كانت تسري بينهم سريان الدم في العروق.. ثم انحنى على الأرض وقبض على حفنة من التراب وقال: انظري يا ابنتي الى هذا التراب النظيف الذي يساوي ذهباً وتفكري في شبان سورية عندما بدأ الصهاينة يستولون على قطع كبيرة من فلسطين الغالية، وعندما طردوهم في نهاية الأربعينيات من أرضهم وبيوتهم لم يحملوا معهم إلا إحساسهم بالواجب نحو وطنهم، وهكذا شاركناهم محنتهم، وآويناهم، وما تخلينا عنهم طيلة هذه العقود.
وسألني: وهل تظنين أن إسرائيل ستكتفي بالأرض التي سكتنا عنها نحن العرب تحت شعار الأرض مقابل السلام.. وكنا نعني هذه الدولة الهجينة التي أسموها إسرائيل ولا نقصد بالطبع لا القدس ولا الجولان ولا سواهما؟.. وسحبتني أفكاري نحو تلك الحقبة التاريخية بين الأربعينيات والخمسينيات عندما احتشدت أحزاب كثيرة في الوطن العربي كانت سمتها الواضحة هي القومية العربية.. فنحن لسنا بلاداً تقطعت أوصالها بل بلاد تجمع أجزاءها من أجل مستقبل لا يعد بالتقدم إلا في العمل والإنتاج، وانتشار العلم، والتأهب لكل مؤامرة إسرائيلية تريد أن تطفئ أنوار الوطنية في بلادنا.
ما عدت أذكر تلك المناقشات التي كانت تبدو سطحية ولكنها عمق العمق في الوطنية.. ولما سألته: هل تعرف فلاناً وفلاناً من الذين غيبهم الزمن؟ قال بحسرة: طبعاً أعرفهم واحداً واحداً ولدي كتب جمعت أخبارهم وآثارهم أستطيع أن أعرض عليك بعضاً منها. قلت له والشمس تميل للمغيب: إن لدي أيضاً بعضاً منها وأنا أحافظ عليها لا لأنها من التراث بل لأنها مشاعل نستطيع أن نرفعها كلما أردنا وخاصة في وجه إسرائيل التي تريدنا أن ننسى ماضينا وحاضرنا، ويلحق بنا الدمار والخراب، وتفتح فمها الجهنمي لكي تبتلع ما يمكن أن تبتلعه من الأرض العربية، والحقوق العربية لاسيما أن الانتفاضات والاحتجاجات تملأ مساحات الأوطان.. وكان عليها أن تفكر في هذه الجموع الهادرة في كل قطر في أنها تستطيع أن توقفها عند حدها.. وأن تحمي بأذرعها الأقصى وما يدبرون له من مؤامرات ومكائد.. وها هي الآن تزداد شراسة ووقاحة عندما تعلن عن وحدات سكنية لقطعان المستوطنين في القدس الشرقية.
ونتساءل كما يتساءل الأوروبيون أنفسهم أو الأميركان: الى أين تسير إسرائيل لا الى أين تسير البلاد العربية التي تملك حقوقها.. وتقرير مصيرها.. وقدرة أبنائها على صونها وحمايتها.. (فلا نامت أعين الجبناء).