(إن السبب الذي من أجله حاربت فرنسا وبريطانيا في الشرق, تلك الحرب التي أهاجتها مطامع الألمان, إنما هو لتحرير الشعوب التي رزحت أجيالاً طوالاً تحت مظالم العثمانيين تحريراً تاماً نهائياً, وإقامة حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطتها من اختيار الأهالي الوطنيين لها اختياراً حراً).
إلى هنا ينتهي هذا النص الجميل لوثيقة العام ,1918 ولكن ماذا عن حقيقة الأمر كما ترويه لنا صفحات التاريخ المعاصر في هذا السياق?
إن ادعاء كهذا الادعاء - الوعد إذا كان قابلاً للتصديق يوم صدوره, فإن شيئاً من هذا القبيل لا يمكن قبوله في الوقت الراهن, بل وحتى في السنوات التي أعقبت ظروف الحرب العالمية الثانية تحديداً, وقبل ذلك, حتى في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى, حيث تنامى جشع المستعمرين فرنسياً وبريطانياً إلى حد التهام أرض العرب, فجرى تقسيمها, كما هو معروف, إلى مناطق حمراء وزرقاء, الأمر الذي جعل الأمة العربية في المراحل التي سبقت إعلان استقلال أقطارها في أربعينيات القرن الماضي, تكتشف زيف وبطلان هذا الادعاء - الوعد وما ماثله من ادعاءات لاحقة, حاول المستعمرون من خلالها تحقيق أهدافهم في استثمار ثروات الأرض العربية, وخاصة في شرق الوطن العربي, حيث كانت المواجهة بين القوات الفرنسية والبريطانية وبين القوات العثمانية أكثر وضوحاً وأكثر حضوراً على سطح المنطقة.
وكما يلاحظ قارئ التاريخ فإن صدور هذا (الوعد), بعد مضي عام واحد فقط على صدور وعد بلفور في الثاني من شهر تشرين الثاني عام ,1917 جاء لتكريس حضور المستعمر في المنطقة, وصولاً إلى تحقيق أطماع الحركة الصهيونية, في الوقت المناسب, وبحماية دولية قدر المستطاع, ليكون له, فرنسياً كان أم بريطانياً أم أميركياً فيما بعد, عتبة مرور إلى ما وراء المنطقة من دون مصاعب أو عراقيل.
ومعروف أن المنطقة العربية, وبصورة خاصة منطقتنا في الشرق الأوسط, عانت من نتائج هذا الوعد الذي لم يف به أصحابه طويلاً, ولا تزال تعاني من نتائجه حتى أيامنا هذه, ذلك لأن العقلية التي تتحكم بالمستعمرين, جدداً كانوا أم قدامى, تبقى كما هي, ولكن مع اختلاف الوسائل المستخدمة والطرق المؤدية إلى أغراضهم.
هذه العقلية, التي تستند إلى قناعة الغرب خاصة, القائلة بأن الذاكرة العربية في حالة سبات, تحاول اقتناص أية فرصة كي تدغدغ نفوس العرب من خلال القول بأن المساعي قائمة لتقصي الحقائق وصولاً إلى إعادة الحقوق العربية إلى أصحابها. وربما كانت قناعتهم صحيحة في مكان, ولكنها, بالتأكيد, غير صحيحة في كل الأمكنة. فلقد خبر شعبنا العربي السوري تحديداً, أن عناوين الدغدغة هي مجرد أدوات لتغطية الأهداف المبيتة لتمرير مخططات التوسع والسيطرة على مقدرات الأمة, ولهذا كانت سورية حذرة دائماً, ولهذا أيضاً قدمت وتقدم في كل وقت جملة من التضحيات بهدف تحصين الموقف العربي, حفاظاً على هوية الإنسان العربي وأرضه وتاريخه. ولئن كان الوعد الذي نصت عليه وثيقة السابع من تشرين الثاني عام ,1918 لم تترجم على أرض الواقع, بينما ترجم وعد الثاني من تشرين الثاني عام ,1917 بحذافيره, فذلك لأن في السياسة, كما ظهر لنا ولجميع شعوب العالم, كيف توارت ولا تزال تتوارى الأخلاق على مستوى العلاقات الدولية, ليحل محلها الكذب والنفاق. وهل ثمة من دليل على ذلك أكثر وضوحاً فيما نرى ونقرأ في وقتنا الراهن, بدءاً من قرار مسيّس وصولاً إلى تقرير مسيّس, عبر إعلام مأجور مسيّس?