ما يجعل أسعار بعض المنتجات مرتفعة بالنسبة للمستهلك ومنخفضة وغير مجزية بالنسبة للمزارع، بل وفي بعض الأحيان تضطر شريحة واسعة من المزارعين لتسديد فواتير لا حصر لها من الخسائر، وذلك لأسباب قد تتعلق بارتفاع أسعار المواد الأولية من مستلزمات الزراعة أو نتيجة ظروف مناخية خارجة عن إرادة المزارعين يكون من نتيجتها خسارة كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية المختلفة. وأمام هذه المشكلة فان السؤال الذي يبحث عن إجابة هو: كيف يمكن الوصول إلى أسعار معتدلة ومنصفة للمنتجين والتجار من جهة وللمستهلكين من جهة ثانية ؟
تقول المعلومات التي تعود إلى المنتجين والتجار والمصدرين، أنّ السبب الرئيس لارتفاع أسعار بعض المنتجات في بعض المواسم، لا يتعلق بتراجع الكميات المنتجة مثلما كان واقع الحال في مواسم سابقة أعقبت تراجع معدلات الهطل المطري. وإنما السبب في السنوات الأخيرة التي سبقت الأحداث الاستثنائية الحالية هذه المرة، أنّ هيئة تنمية الصادرات كانت قد بدأت أنشطتها التصديرية بقوة أقل ما يمكن أن يقال عنها بأنها لافتة وغير مسبوقة، فالمراقب العادي الذي يتواجد مصادفة على منافذ الحدود البرية، كان يشاهد بالعين المجردة عشرات الشاحنات والبرادات التي تنقل يومياً مئات الأطنان إلى بعض دول الخليج والعراق، وخاصة من أصناف الخضر والفواكه..، ولأنّ استجرار كميات كبيرة من المنتجات إلى الأسواق الخارجية من شأنه الإسهام في ارتفاع الأسعار في السوق المحلية في حال غياب الضوابط التي تحكم عمليات التصدير، فقد صدرت عن اقتصاديين وسواهم من المراقبين، أصوات محذرة من الوقوع في شباك التصدير العشوائي.
غير أن القضية الأخرى التي يتعيّن التنبيه لها وبالتوازي مع الدفاع عن حقوق المستهلكين، أنّ المشكلة القديمة في تعاطي التجار والمصدرين مع المزارعين لم تتبدل رغم إثارتها في أكثر من مناسبة, وخاصة خلال تنظيم المؤتمرات الفلاحية، والمقصود بهذه المشكلة القديمة – المتجددة، أنّ التاجر ما زال وحسب التعبير الشعبي الرائج «يأكل البيضة والتقشيرة». أي في الوقت الذي يباع فيه كل كغ من التفاح للمستهلك – على سبيل المثال- بمبلغ يصل إلى (65) ليرة، فإنّ المزارع لا يحقق من المبلغ المذكور أكثر من (25) ليرة في أحسن الأحوال، وذات المثال يمكن سحبه على عدد من أصناف الفاكهة والخضار، وبالاتكاء على هذه الحقيقة وتكشفها بشكل معلن، فقد بات من شبه المألوف، أن تبادر شريحة واسعة من المزارعين في التوجه إلى الأسواق المحلية وتسويق منتجاتها بنفسها دون حضور أي وسيط من تجار الجملة والمفرق، واللاَّفت أن من يفرض بورصة الأسعار هو التاجر الذي يقوم بالتصدير مباشرة، والمزارع بات يعلم أن لعبة التجار أصبحت مكشوفة، فكلما ارتفعت وتائر التصدير كلّما ارتفعت أسعارها في السوق المحلية..، وبغض النظر عن الكثير من التفاصيل التي يمكن سردها حول علاقة التجار والمصدرين مع المنتجين وآليات فرض الأسعار وانعدام الثقة بين الطرفين، فإنّ على غرف الزراعة والمنظمات الفلاحية، وكل من له علاقة بالدفاع عن حقوق ومصالح المزارعين، السعي إلى صوغ خطة أو رؤية من شأنها ضمان إنصاف المزارعين وتحقيق سياسة سعرية مجزية، وحضور هذا الاستحقاق بات أكثر من ضرورة وحاجة ماسة مع ولادة هيئة تنمية الصادرات واتحاد المصدرين، فهذين الطرفين من الواضح وقبل اشتعال فتيل الأحداث الجارية كانا يشقان طريقهما بقوة، وبمقدورهما صوغ آليات وضوابط ناظمة لعمليات شراء منتجات المزارعين.
غير أن الأهم من كل هذا وذاك، يتمثل في استحقاق جوهري عنوانه الأساسي تقديم الدعم للمزارعين سواء نتيجة حدوث كوارث طبيعية مثل الفيضانات وغيرها، أو لأسباب أخرى وثيقة الصلة في التشجيع على الصادرات، ففي بلدان مثل تركيا واليونان واسبانيا وتونس على سبيل المثال، تقوم الحكومات بدعم مزارعيها من خلال تقديم نحو ( 100 ) يورو عن كل طن واحد يصدر من الحمضيات والأمر ينسحب على منتجات أخرى كثيرة منها زيت الزيتون والقطن وبعض أصناف الفاكهة، وبالمناسبة فهذا الدعم لا يذهب إلى الفراغ أو يكون بلا عائدات، وإنما يعود على خزينة الدولة بفواتير مضاعفة وخاصة من القطع الأجنبي، غير أنه وللأسف مثل هذه السياسة ما زالت أكثر من مجهولة، وفيما لو خرجت علينا وزارة الزراعة كي تذكر بصندوق الدعم الزراعي، يكفي بهذه الحالة التذكير بأن هذا الدعم بالكاد يغطي أثمان البذار أو الأسمدة في حال تعرض المنتج للكساد أو التلف في بعض المواسم، كل ما ذكرناه من أسباب يفترض أن يشكل حافزا لإعادة بوصلة الزراعة إلى الاتجاه الصحيح، خاصة في وقت تشتد في التحديات الخارجية التي يفترض أن تنتعش فيه مقولة الاعتماد على الذات أكثر من أي وقت مضى.
marwandj@hotmail.com