قد رسخوا قواعد حضارتهم.. والتسلسل التاريخي معروف وموصوف، وتأثيراته لاتزال في كثير من بلاد العالم.
أما أنني لا أدافع عن المثقفين فذلك لأن القرن العشرين أدار ظهره لكل أنواع الثقافة انبهاراً وتطبيقاً للتطور العلمي الوضعي والمذهل وللإنجازات العظيمة التي حققها هذا العلم.. ولم يعد يقدم للثقافة بما فيها ثقافة الفنون إلا النزر اليسير من جوائز عالمية، ومن شهرة تتخطى الحدود يندر أن يكون لها على بلادها أي مردود.. ثم إن القرن العشرين وكأنه قد حمل فؤوساً ليهدم بها رواسخ الثقافة العالمية بعدم الاكتراث بها أو الإشارة إليها، لأن مشروع الحضارات كان قد بني على المادة.. وتطور المفاهيم للحريات.. والتقدير حتى التقديس للإنسان الفرد وخاصة إذا كان مندفعاً نحو التطوير والتحديث.
وما كان في ظننا أن سيطلع علينا فلاسفة ومنظّرون سياسيون وراسمو خرائط، يقسّمون العالم الى متخلف أو متطور درجة أولى أو درجة ثانية أو ثالثة الخ...، حتى فجعنا بأصوات لمن اعتبروا قمماً شاهقة مثل (هنتنغتون) الذي بشر بصراع الحضارات المؤدي بالطبع الى وفيات.. وفيات من لايدخلون في معادلة الصراع. إنما المفجع والمؤلم لا إلى الشرايين، بل إلى نقي العظام أن يفاجئونا بما سمي (الفوضى الخلاقة) وهي مثل (شيفا) الأسطورية ذات الأذرع المتعددة.. تبدأ من السياسة ولا تنتهي عند أي ثقافة مهما كانت محدودة أو ضئيلة.
إنها الفوضى الخلاقة (وتعريف اسمها بالأساس ليس كذلك).. وأنا أسميها (الفوضى الخنّاقة) التي بدأت أول ما بدأت بالثقافة والمثقفين.. وأطلقت ألسنتها النارية كالتنين في الأساطير القديمة، فبدأت بإحراقهم. وبالطبع فقد صرفت المثقفين عن كل شيء عندما حولت الفوضى إلى السياسة واقتحام البلاد الآمنة والاعتداء عليها بما لم يعرف حتى في عصور الوحشية ومظالم الإنسانية.
ومن هنا نقول: كيف يستطيع المثقفون لدينا ولو حملوا أنقى وأرقى ثقافات العالم أن يبرزوا إلى السطوح الدامية والى خرائب البلدان التي رضيت أن يسموها النامية؟.. انشغلت بذلك الفوضى الخلاقة لكنها استمرت خنّاقة للثقافات والفنون وحتى للأوابد الأثرية والمعالم التاريخية.. ويأملون أن نتلفت حولنا فلا نجد أنفسنا إلا في عصر حجري وقد امحى تاريخنا وتراثنا وتبدلت شخصيتنا المأخوذة بالحضارة القادمة.. بينما تتلامع أمامنا إعلانات أو صور لعالم مبهر تكنولوجي ومسيطر ليس على الجسد البشري بل على دماغه، ومشاعره، وسلوكه اليومي، وعلى قدره كاملاً حتى المعيشي.
لا أدافع عن المثقفين تنكراً لهم ـ ولعلني منهم ـ يأساً أو جحوداً أو استسلاماً لكنني ألتمس لهم الأعذار فيما هم فيه من أخطار.. وما يتفجر في أعماقهم من إنذارات لعلها ترمي الى إلغاء أدوارهم.. ودفعهم الى مناطق الظلام ولاسيما أن التحكم في التراث العالمي أصبح في قبضة أيدي من يرسمون الخرائط للمستقبل البشري عبر أمواج الفضاء.
وأتساءل: هل للأمم والشعوب أقدارها كما للأفراد هذه الأقدار؟