الحياة دروب، والسفر والغياب والشوق والحب والألم.
دروب قد تتقاطع وأخرى قد تسير متوازية..
فلا تلتقي التفاصيل ولا تتجدد الآهات ولا يحف الوقت نقوشه على الذاكرة.
بالأمس كانت شجرة السنديان تعرّش على حكاياتنا.. وكانت المصاطب تحكي عن الجدات اللواتي ينتظرن على الدروب حتى يعود الفرسان من المعارك فيسقينهم الماء ويطعمنهم خبز الفخر.. واليوم.. لا جدات ينتظرن ولا خالات يبكين وليس سوى الغياب على الدروب يتمشى فتذوب الساعات وتذوب القلوب، فيدوس الغبار على الغبار وتمشي الطريق ولا تصل إلى محطة أبداً.
ونحن.. في انتظار المحطات نقضي عمراً ونصرف دهراً فتجوع الأسئلة وتبكي حجارة الوقت ولا تحصل على أجوبة تمسح الروح من التمزق.
أي زمن هذا؟ وأي درب تلك التي تدور بنا ونحن لا مستقر لنا ولا نهاية للوجع.
هي دروب..
نعم ونحن علينا أن نمشيها.. نتأسى.. نبكي.. نرقص.. المهم أن نمشيها.. لكن هل نصل النهايات؟ هل نقف في المنتصف.. هل نتجاوز العباءات القبلية التي خيمت على رؤوسنا وجعلت رؤيانا ضيقة وعيوننا مغمضة؟ هل؟..
يا الله كم (هل) علينا أن نرمي على الدروب حتى نستطيع أن نستوعب هذا الهذيان الذي يجرّح الذاكرة ويجعلنا كما الأشجار المنسية على طريق بعيد، بعيد.
دروب.. مشاعرنا.. نظراتنا.. حروفنا.. كلها دروب وعلينا أن نتحكم باتجاهها وإلى أين تسير.. إلى أين تستمر في الدوران.. كم مفرق؟ كم محطة وكم ميناء ستعبر أو ستحط الرحال وكم من الغرباء سيصيرون من أهل البلد.. وكم من الأقرباء يصيرون غرباء والطرقات تسير، مرة تتقاطع ومرات لا ترى ضفافها.. هي الدروب تأخذك إلى الغربة.. وهي الدروب ذاتها تعيدك إلى القلب.. والقلب متعب.. والبصيرة ضيقة.. والبراري مقفرة.. فلا تبتعدي أيتها الوجوه الحزينة كثيراً حتى لا تخسري محطات الأسئلة.
والدروب.. لها أسماء.. كما لو أنها بشر يتنقلون بأحمالهم وحكاياتهم.. كما لو أنهم يسلمون على الوقت والوقت يجري والدروب تجري وتأخذ أسماءها ولا تلتفت لنداء الأمكنة.. طريق جبلة.. طريق قريطو.. طريق جبل الشيخ.. طريق نهر الفرات والفرات حزين.. والدروب جدّ بعيدة وأنا قلبي يحترق حين تمرّ الكلمات ولا تتلفت.. وحين يمرّ الشوق ولا يتنهد.. كأن الأمكنة كلمات.. كأن الأحبة كلمات وقد نسيناها.. كيف يمكن استعادة كل هذه الدروب ونحن عاجزون عن قراءة خطاها وعاجزون عن تهجي اسمها؟
دروب.. الأشخاص أيضاً دروب.. بعضهم وعر كأنه محفور في الصخر، وبعضهم كأنه يجري كما الماء في الحياة والحياة أيضاً درب.. وما أكثر الدروب التي نمسك بها ولا نستطيع الحفاظ عليها.. المدن دروب.. مرة تبتعد ومرة تقترب.. مرة تكون على باب القلب ومرة تكون في آخر مفترقات الذاكرة.. لكنها، أي الأمكنة الحبيبة تأخذ دربها عنوة وتسير نحونا.. وما علينا إلا أن نفتح أرواحنا لنلاقيها ونبتهج بعطرها.
دروب.. والبلاد دروب صعبة المنال.. ودروب بهية السؤال.. وهناك دروب للبلاد لا يسير على ترابها سوى الأبطال. دروب يمر الشهداء على عشبها ويمر التاريخ حولها ويزنرها كما السوار يزنر المعصم ويوشم الأنامل بالملاحم والسير التي تنبت على ضفاف الدروب وإذ يمر أطفال البلاد.. يغنّون لها فتكبر التفاصيل ويكبرون معها وتصير الدروب ذاكرة.
دروب.. تمتد وتصير نشيداً للحزن حين نبتعد.. وتتحول إلى رنين للنايات حين تذرف الأمهات دموعاً على يد تلوّح وعلى صوت يغافل الصمت ويقرع باب الفراق.. لا تبتعدي كثيراً أيتها الدروب حتى لا تصير البلاد في جهة ونحن في آخر الاتجاه.
توقفي قليلاً واستريحي في محطات الحنين.. غداً يصلك الورد وتعودين من سفر بعيد.