| قصة الشعر (4) كهف التاريخ معاً على الطريق رغم مختلف ادعاءاتنا بأننا نلتزم بالدين والوطن والأخلاق والمصالح العليا, فنحن ضيقو الانتماء على مختلف الصعد وما زلنا مذهبيين وطائفيين وعرقيين وقطريين حتى العظم ومخه ونخاعه الشوكي. عند كتابة أي مقال جديد أجدني مضطراً للاستشهاد بشيء كتبته سابقاً, وهذا ليس نوعاً من البوك (السرقة) حسب وصف الصديق مازن صباغ ولكنه نوع من عملية الإغناء لأطروحة قديمة لكنها جوهرية وأصيلة. ومن أبرز الأفكار التي طرحتها في سلسلة مقالاتي أطروحة (القيمة التاريخية والقيمة الفعلية), وخلاصتها أن المدارك العلمية لطلاب المدارس الابتدائية والمتوسطة اليوم هي أوسع من المدارك العلمية لأرخميدس وغاليلو ولافوازييه ونيوتن وغيرهم من العلماء لكن هذه الحقيقة لا تحرم هؤلاء العلماء الأجلاء من قيمتهم التاريخية. وصحيح أن العالم لا يستخدم اليوم الخرائط الجغرافية التي وضعها الإدريسي وأنه من المستحيل على أي طيار أو قبطان سفينة أن يستخدم هذه الخرائط لكن القيمة التاريخية للإدريسي لا يمكن أن ينتزعها منه أحد. وكذلك هو الحال بالنسبة لسيبويه الذي كان من أبرز المؤسسين لعلم النحو لكن النحو الذي وضعه قبل اثني عشر قرناً لم يعد صالحاً جملة وتفصيلاً لعصرنا الحاضر ونحن نتنعم بإبداعات الألسنية الحاسبية الفائقة التطور. المشكلة الأساسية لم تكن مرتبطة بسيبويه نفسه لكن في العقليات والذهنيات المتعصبة والسلفية والمتحجرة المتموضعة ضمن حقبة تاريخية والتي عاصرته وجاءت بعده فحين وضع كتابه في النحو الذي أطلق عليه اسم (الكتاب) سارع أصحاب هذه العقليات إلى تسميته ب (قرآن النحو) لإعطائه صفة ردعية مقدسة, ثم راجت عبارات مثل (النحويون عالة على سيبويه) ومثل (من فكر بوضع كتاب بعد سيبويه فليستح) الأمر الذي كشف مدى التحجر والتماهي مع التقليد والاتباع والتحجر. ومع أن (ابن خلدون) الذي كان من أبرز علماء الإسلام والذي نتح علماء أوروبا من علومه وعلى رأسهم (دوركهايم) تجرأ على وصف عالم النحو الشهير (ابن هشام الأنصاري) بأنه أنحى من سيبويه إلا أن أحداً لم يلتقط فحوى مقولته والتي تعني أن عصر ابن هشام هو أنحى من عصر سيبويه بفعل التراكم الهائل للإبداعات في مختلف ميادين اللغة خلال القرون الستة التي فصلت بين عالم سيبويه وبين عالم ابن هشام. وحقيقة الأمر أن المؤسس الحقيقي لهذه الفكرة الجدلية هو أبو العلاء المعري الذي قال: وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل وبما أنني التقطت هذه الفكرة الجدلية أقول بكل ثقة إننا قادرون على القيام بأشياء لم يستطع الأوائل بمن فيهم أبو العلاء المعري الذي تفصلنا عنه ألف سنة القيام به ولو بنسبة ضئيلة, لأن عصرنا الذي فيه الكهرباء والطيران والحاسب والفضائيات لا يقاس بعصر أبي العلاء المعري ولا بعصور من سبقوه. آخر ما يمكن أن أقوله لشرح الفرق بين القيمة التاريخية والقيمة الفعلية هو أن المصاحف القديمة المكتوبة على أوراق البردي وعلى جلود الحيوانات لا يمكن قراءتها اليوم من قبل أكابر العلماء مع أن أسعارها تنوف على مئات الآلاف من الدولارات, فقيمتها تاريخية محض ولا علاقة لها بالقيمة الفعلية. وفي محاولة للتخفيف عن القارئ العزيز من عبء هذه المعلومات الجافة سأذكر بعض الذكريات الشخصية الحميمة كنوع من الترويح عن النفس, والتي لها مساس بجوهر الموضوع. تجمعني مع الصديق أبي خلدون حسين العودات علاقة تقارب الأربعين سنة وهو أطال الله عمره يمثل بالنسبة لي اليوم ثمالة الأصدقاء الذين رحلوا, وأهم ما يميزه هو الألمعية والذهن المتقد والإجابات المفاجئة. فعلى سبيل المثال اتصل بي في أواسط الثمانينات الصديق د. لطف الله حيدر سفيرنا آنذاك في لندن وقال لي أنا في دمشق ومشتاق جداً للرز البخاري, هل بالإمكان أن تطبخه هذا المساء? ومع أن وقت الاتصال كان متأخراً إلا أنني أجبته بكلمة واحدة هي »لعيونك). ولم تسنح الفرصة الضيقة إلا بدعوة الراحل سعيد حورانية وحسين العودات إضافة إلى لطف الله, وبعد أن تناولنا الرز البخاري بدأ سعيد بإبداء الملاحظات على الرز فما كان من حسين إلا أن تصدى له قائلاً.. »شوف يا سعيد لا تتفذلك ولا تدخلنا الرز البخاري بالأيديولوجيات والمزاجيات.. نحن الحوارنة متخصصون بالرز والمناسف هادا الرز البخاري ما بينحكا عنو كلمة واحدة). ذكرت هذه القصة لأنني حين قلت مرة لحسين عودات إن ما تجمع لدي من مشجرات أنساب يفوق ألف ضعف ما دونه النسابة الشهير »ابن الكلبي) فوجئت بأنه بدلاً عن أن يهنأني على هذا الانجاز انتهرني قائلاً.. لا يجوز أن تقيس نفسك بابن الكلبي أو غيره لأن لديك أقلام رصاص وفوتو كوبي وحاسب وتقنيات متنوعة واسعة لا تقاس بعصر ابن الكلبي, وكان ما قاله من أصدق وأبلغ ما سمعت حول الفرق بين القيمة التاريخية والقيمة الفعلية. وآخر ما أود قوله في هذا السياق إن أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى حين جاء قبل بضعة أشهر إلى بيروت ليحل المشكلات المستعصية بين الأفرقاء الذين أكثريتهم من صبيان السياسة وعلمائها ومن الأتباع والملغومين أدهش الجميع باستخدامه عبارة »أنا متشائل). وللحقيقة والتاريخ فإن حسين عودات سبقه باستخدام هذا المصطلح بقرابة ثلاثين سنة حين كان يكتب في أواسط السبعينيات عموداً يومياً في صحيفة البعث الدمشقية بتوقيع »متشائل). نعود مرة أخرى إلى جوهر الموضوع فأقول إن أحداً لا يصدق أن مفهوم السلفية الذي أقض مضاجع المسلمين جميعاً ناشئ عن التباس لغوي يتركز حول مفهوم »السلف الصالح). فهذا المصطلح يحمل معنيين, الأول هو: أن السلف كله صالح ويجب الاقتداء به, أما المعنى الثاني فيتلخص بأن بين السلف من هو صالح ويجب الاقتداء به, ويشكل هذا فرقاً فكرياً ودينياً خطيراً. إنه من غير المنطقي أو المعقول أن يكون السلف كله صالحاً بعد أن اقتتل خيرة الصحابة في حربي الجمل وصفين وبعد أن استعرت حرب الخوارج والتي كان من أبرز شهدائها الإمام علي كرم الله وجهه. وأعترف بأنني فكرت لأول مرة باستخدام مصطلح »كهف التاريخ) حين عملت في الموسوعة الشاملة للحديث النبوي الشريف. وخلاصة الفكرة أن ثمة عدداً لا يستهان به من الأحاديث النبوية لم يعد له علاقة بحياتنا اليومية المعاصرة, فما الذي يفيدنا من أحاديث حول العتاقة والعبيد طالما أن موضوع الرق كله قد تلاشى في عصرنا, وماذا تعنينا أحاديث حول تحديد مواقيت الصلاة أو مواقع الإحرام قبل الدخول إلى مكة المكرمة طالما أن هذه الأمور باتت خاضعة لمعطيات علمية دقيقة? وماذا يعنينا حديث للفارس سهم وللفرس سهمان أو حديث: أنه كان يرمي الجمرات وهو على راحلته, مع معرفتنا أن رمي الجمرات في الحج اليوم يشكل أكبر العقبات التقنية بصرف النظر عن الراحلة أو السيارة. أما بالنسبة لموسوعة الشعر فإن الأمر أبشع وأدهى ففي حين وردت كلمة »فرند) مرة واحدة في معجم لسان العرب فقد تكررت في موسوعتنا الشعرية أكثر من تسعين مرة, ولكن ماذا يعني هذا? إنه يعني وضع كلمة فرند وسيف وعضب وهندواني ومشرفية ودمشقي ويماني وأبيض وبتار وغيرها من مفردات الأسلحة العتيقة في كهف التاريخ لأنه آن لنا أن نفكر ونتعامل مع الصواريخ.
|
|