بل إنها تتسارع يوماً إثر يوم لتقتحم كل مفردات حياتنا بدءاً من الآلة التي نستخدمها وصولاً إلى بياناتنا الشخصية التي تخزنها الآلات عنا، وكل ما يتعلق بالفرد من معلومات حوله شاء ذلك أم لم يشأ، في نقلة حضارية لم يسبق لها مثيلاً.
لقد تحولنا إلى منظومة رقمية لها قاعدة هائلة باتساع مساحة الأرض، وكل من عليها. وأنت أيها الفرد.. مَنْ أنت؟ لست أكثر من رقم من بين الأرقام يختصرك ليدل عليك، ويعرّف بحاضرك، وماضيك، وربما مستقبلك.. وما لم تمح أميتك الرقمية بالتوازي مع أمية الأبجدية فإنك ستغدو أمياً تائهاً في واقع جديد تحكمه الرقمية، وتنتظمه، وتخلق من خلاله علاقات مجتمعية لها معاييرها الخاصة التي تختلف عما كان سائداً فيما سبق.
وها أنت تصبح مواطناً رقمياً في مملكة كل موقع إلكتروني تنضم إليه.. وهذه المواطنة تكاد لا تختلف عن المواطنة في العالم الحقيقي من حيث حقوق الغير عليك من وجوب عدم الإساءة، وعدم استخدام العنف اللفظي والمعنوي، وكذلك التنمر الذي يتربص لينال من فرد بعينه. والدول تسن قوانينها، وأنظمتها بالتوافق مع المنظومة الإلكترونية لحماية الأفراد ممن يقع عليهم الظلم، والاعتداء الإلكتروني لينال المعتدي جزاءه عند مقاضاته، فما عاد ما يُسجل على الحسابات الشخصية، والمواقع مجرد كلام في الهواء، أو أنه الهراء بل أصبح منه ما يصل إلى حد الجريمة التي يجب أن يعاقب عليها القانون، وخاصة فيما يتعلق بإثارة الفتن، والنزعات التعصبية، والإشاعات المغرضة، وغير ذلك من العدائية.
وبما أن تلك الضوابط الأخلاقية التي تنتظم الناس في علاقاتهم بين بعضهم بعضاً قد أصبحت هشة إلى حد التلاشي تقريباً على صفحات الشبكة العنكبوتية، فقد أصبح بالتالي لزاماً على المؤسسات الرقمية الكبرى مثل (غوغل)، و(فيسبوك)، وغيرهما من المواقع المشابهة أن تسن قوانين ضابطة جديدة لمواقعها بحيث يغدو بإمكانها حجب كل ما يسيء، أو يتسبب بالعداء، والكراهية بين الناس ما دامت تلك المشاعر العنيفة تعبر القارات، وتسري كما الوباء مع الهواء.
ولما كانت المواقع المسيئة، والمواد ذات المضمون البذيء، والأخرى غير القانونية تنمو دون هوادة على شبكة المعلومات كما الأعشاب الضارة، وخاصة على شبكات التواصل الاجتماعي، وتحديداً على موقع (الفيسبوك)، فقد أخذت شركات التكنولوجيا الكبرى، وبعض الدول بفرض الرقابة على المحتوى، والتي قد تصل إلى حد حجب بعض الكلمات من المواقع كما محركات البحث، بل إجبار مواقع التواصل على إزالة أي محتوى غير قانوني، أو مسيء، وكل ما يتعلق بخطاب الكراهية.. رغم صدام الآراء والمواقف التي تباينت بين تصحيح المحتوى الرقمي وتقويمه، وما يسمى حرية التعبير التي تطلق أبواقها عالياً عند أول مساس بها مهما كان بسيطاً، أو منطقياً متجاهلة الاستخدام غير المسؤول لتكنولوجيا العصر، وما يفرزه من نتائج سلبية.
خطوة لعلها تأخرت، وهي لم تكتمل على أي حال، وما زالت تتعثر بسبب ربح الدعاوى القضائية في هذا الخصوص، أو خسارتها إلا أنه أصبح من الضروري مراقبة السلوكيات التي تجنح عند كثير من الأفراد إلى خلق الأزمات.
وما دامت (المواطنة الرقمية) قد أصبحت واقعاً لا يمكن تجاهله في إطار الحكومات الإلكترونية، وتكنولوجيا الاتصال فإن بعض الدول أدخلت هذا المفهوم الجديد إلى مناهجها التربوية، وعرّفت مفهوم المواطنة هذا بأنه القدرة على استخدام المواقع الإلكترونية بهدف الفائدة لا العكس.. وليصبح بالتالي الفرد مواطناً له ما له من حقوق، وعليه ما عليه من واجبات.
وأنت أيها المواطن الرقمي في امبراطورية الرقمية هذه لك أن تقرر مصيرك بنفسك من خلال مواطنتك.. فإما أن تحسن الأداء باحترامك للقوانين، وحقوق الغير.. وإما أن تقذف بنفسك إلى نافذة عريضة لتسقط منها، فلا يشكل سقوطك هذا أكثر من سقوط رقم من بين بلايين الأرقام.