كلما قرأنا رواية أو تابعنا فيلماً يخوضان في مثل ذلك الأمر, عدنا لنعيش عذابات البشر التعساء الذين شاء المكان الخطأ, والتوقيت الخطأ, والنوايا الخطأ أن يكونوا حينذاك موضوع درس عملي للوحشية الإنسانية.
لكأن عذابات الشعوب معين لا ينضب.. لكأننا لا نجيد الحفر إلا في مجازر مازالت شلالات الدم تتدفق منها حتى اليوم! في روايته الجديدة التي حملت عنوان «أب من دم»، يعود الكاتب الفرنسي جان هاتزفالد مرة أخرى إلى «رواندا» ليقدم صورة أخرى عن المجازر التي شهدتها عام 1994.
لفتتني جملة قالها هاتزفالد في حوار أجرته معه جريدة «لوموند الفرنسية» في عددها الصادر يوم الجمعة 4 أيلول الماضي: «إن الأطفال لا يرغبون في معرفة ما حدث بالضبط خلال تلك السنوات السوداء، وحتى إن رغبوا في ذلك فإنهم لن يحصلوا على ما يشفي فضولهم... إن الأطفال يريدون أن يطووا الصفحة ويرغبوا في بناء رواندا جديدة. وأنا لم أصدق ذلك مطلقاً».
كم من الحكايات يمكن أن تروى عمّا حدث- ومازال يحدث- في سورية؟!
كم رواية ستُكتب.. كم فيلماً سيُنتج... كم لوحة.. كم... كم شاهدة قبر سنعدُّ مع نهاية النفق المظلم هذا؟!
طبقات من المأساة تترسب في عقول وذاكرات وضمائر الشعب السوري على اختلاف انتماءاته وخلفياته.. ستختلف الروايات باختلاف زاوية النظر.. وزاوية الوجع.. وزاوية فوهة البندقية... لكن الألم يوحّد الجميع.. كما أن الخراب يوحّد الأمكنة.
ثمة من بدأ الكتابة.. ومن بدأ تصوير الأفلام.. هنا أو هناك.. على هذه الضفة أو تلك.. ولن يقنع أطفال اليوم ورجال الغد برواياتنا وأرشيفنا.. ولن يصدقوا سوى أرشيف ذاكراتهم وأصوات الألم المحنطة هناك في عمق الوجدان.
كيف نجسر الشرخ الذي أحدثته تفاسير الحكاية وتأويلاتها؟
كيف نجعل الأرض التي انفلقت في اتجاهين متعاكسين تستعيد طينها الواحد.. وخريطتها الواحدة؟!
لا أمل لنا إن تمترس كل منا خلف رائحة الدم العابقة في كل التراب السوري.. لا غد يجمع شتاتنا إن لم نحفر في رسوبيات الحب.. لن يكون من السهل علينا تخطي كل الآثار التي تركها الدم, ما لم نسع بوعي وانفتاح إلى بناء الجسور بيننا من جديد.
كم من الوقت يلزم لأطفالنا لينسوا.. هل بمقدورهم أن ينسوا؟!
كم من الوقت يحتاج السوريون لرأب الصدوع التي جعلت البيت الواحد يتخلخل؟!
اليوم وغداً.. نريد آباءً من حب.. من ياسمين.. لا آباء من دم!