تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الفيل الأبيض أو التعتولة

معاً على الطريق
الأحد 12/8/2007
برهان بخاري

الفيل الأبيض هو ترجمة حرفية للمصطلح الانكليزي white elephant وحقيقة الأمر أن أحداً من واضعي المعاجم الانكليزية- العربية

لم يوفق في إيجاد المعنى الدقيق المكافىء في اللغة العربية لهذا المصطلح.‏

وبعد طول جهد وعناء اكتشفت أن كلمة (تعتولة) العامية تكافىء بشكل شبه تام مضمون الفيل الأبيض, بمعنى الشيء التافه أو عديم القيمة اللاصق بك والذي لا تجد منه فكاكاً.‏

ولعل أوضح مثال على مفهوم التعتولة هو التراث العربي والإسلامي في غالبيته العظمى تعتولة كبرى قضت مضاجع أجدادنا وتقض مضاجعنا وستقض مضاجع الأجيال القادمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.‏

لعل من أخطر مظاهر التعود الفكري تكريس مقولة أو مفهوم بشكل ببغائي متواصل, فما زال الكثيرون يعتبرون أن أهجى بيت قالته العرب هو بيت جرير: (فغض الطرف فإنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا) مع أن الهجاء اليوم يتركز على مختلف أشكال العنصرية السائدة في العالم والتي تفوح من بيت جرير نفسه, وثمة بيت آخر لجرير ما زال يعتبره الكثيرون أيضاً أمدح بيت قالته العرب وهو: (ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح) وبصرف النظر عن العنصرية والتزلف والاستجداء التي تنبعث روائحها من هذا البيت فإن أساليب المدح والتزلف والمداهنة اليوم انقلبت رأساً على عقب.‏

ومن مظاهر التعود الفكري أن العرب والمسلمين ما زالوا ينظرون إلى عملية إلقاء هولاكو للكتب في نهر دجلة على أنها جريمة ضد الحضارة والثقافة والمدنية, لكن لو نظرنا إليها من زاوية أخرى لذكرنا هولاكو بالخير على الأقل لأن الرحمة عليه غير جائزة.‏

تصوروا لو أن كل تلك المخطوطات التي حولت مياه دجلة إلى اللون الأزرق لثلاثة أيام موجودة حتى يومنا هذا فما الذي كان يمكن أن يحدث في مجال تحقيق المخطوطات?‏

مما لا شك فيه أن المكتبة العربية ستنوء تحت أثقال كتب تكديسية لا معنى لغالبيتها ولا طعم ولا رائحة ولا لون وسيحصل عشرات الآلاف من أشباه الباحثين على شهادات الدكتوراه التي تجعلهم يتبخترون كالطواويس,وسيزداد الخلاف والاختلاف والشقاق والانشقاق والاحتراب والاقتتال حول تراثنا العتيد.‏

بهذه المناسبة أقول: أرسل لي العالم الفذ الجليل الذي يعتبر بحق من مفاخر سورية الراحل عبد الرزاق قدورة في الثمانينيات عبر الصديق الراحل ناظم كلاس تقريراً باللغة الانكليزية تضعه اليونيسكو كل سنتين حول استراتيجيات التعليم والثقافة في الدول النامية, وأطرف ما جاء فيه مثال عن الفوضى والبلبلة تلخص في دراسة حول الشاعر الفرزدق, والتي أظهرت أن ثمة 179 رسالة جامعية عليا (ماجستير ودكتوراه) جرى إعدادها منذ القرن التاسع عشر في أنحاء العالم حول هذا الشاعر, وقد طرح التقرير سؤالين الأول هو: هل اطلع معدو هذه الرسائل الجامعية العليا على مضامين ومحصلات بعضهم بعضاً في إطار تراكمي تكاملي أم أن الأمر كان نوعاً من التكرار والتكديس? أما السؤال الثاني فكان: كم يحتاج العرب إلى إنهاء دراساتهم حول شعرائهم الذين يعدون بعشرات الآلاف?‏

وبنوع من الاعتراف بالفضل أقول: إن هذا التقرير كان وراء وضعي للموسوعة الالكترونية الشاملة للشعر العربي ووضعي لأول برنامج حاسبي يقطع الشعر العالمي عروضياً بشكل آلي على أسس صوتية بحتة.‏

مشكلتنا مع التراث تتلخص في نظرتنا إليه, إذ لا يمكن إلغاؤه لأنه يشكل ذاكرتنا وهويتنا, ولا يمكن تقديسه بمجمله لأنه جدلي ومليء بالتناقضات والفضائح والعيوب, الأمر نفسه يتماشى مع نظرتنا للإسلام, فيما أن الإسلام يشكل الجلد السياسي للعرب والمسلمين فإنه لا يمكن نزعه حتى من قبل الملحدين لأننا سنقف عراة تماماً في هذا العالم المضطرب الذي يجري فيه الصراع الشرس بين الهويات والحضارات, وعليه لابد من تركيز القداسة على شخص واحد فقط يمثل الرمز الأوحد للمسلمين وهو الرسول الكريم الذي لا يختلف حوله المسلمون.‏

قلت مراراً وتكراراً إن مشكلتنا مع التراث هي: هل نذهب إليه أم يأتي إلينا? وهل نحن في خدمته أم هو في خدمتنا? وحقيقة الأمر أن هذه النقطة مرتبطة بمقولة أخرى تتعلق بمفهومي الخاص حول الرجعية والتقدمية والتي تتلخص بأن الرجعية هي تجيير الحاضر والمستقبل لمصلحة الماضي بصرف النظر عن كون المجير شيوعياً أو رجل دين, أما التقدمية فهي تجيير الماضي لصالح الحاضر والمستقبل بصرف النظر أيضاً عن كون المجير شيوعياً أم رجل دين.‏

وهل من تقدمي, ضمن هذا المفهوم, يوازي المظفر حسن نصر الله الذي وظف الكربلائية أفضل توظيف معاصر والذي استوعب كل تعقيدات الحاضر والمستقبل بما في ذلك الأمور الراهنة والطارئة والآنية والإسعافية?‏

من الوقت الذي ارتكب فيه طه حسين حماقته بشطب الشعر الجاهلي وإلغاء شخصيات تغلغلت في أعماق الوجدان العربي مثل امرؤ القيس وطرفة بن العبد ونحن نعاني ونكابد صراعاً مجانياً بين ما يسمى التقدمية أو الليبرالية وبين الرجعية, ومن الوقت الذي اقترف فيه أدونيس إثم الحداثة وضلل مجموعات منفصلة عن محيطاتها ومجتمعاتها بقضايا لا تمت إلى التراث بصلة والتقدميون والليبراليون يعيشون عزلة خانقة.‏

يحق لي ويحق لغيري أن نقول ما نشاء حول هشاشة التعامل مع التراث دون أدنى خوف أو وجل, فهل بعد حرب المساجد والحسينيات والمراقد من سقف للكشف عن الألغام المبثوثة في تراثنا?‏

لقد جرى ترسيخ الصراع المذهبي والطائفي إلى حد أصاب العرب والمسلمين بعمى الألوان لدرجة أنهم صاروا يرون في إيران البلد المسلم المكافح المنافح الصابر المحتسب في الدفاع عن القضية الفلسطينية عدواً ويرون في الكيان الصهيوني الذي اغتصب الأرض وأهلك الحرث والنسل وسجن الشعب الفلسطيني وجوعه وضيق الخناق عليه حليفاً وظهيراً.‏

حين وضعت الموسوعة الشاملة للحديث النبوي الشريف كنت أنطلق من فكرة بسيطة هي أن القرآن الكريم كان مبعثراً في صحائف وأعساف نخل وعظام وجلود وأوراق بردي وفي صدور الرجال, وقد جرى جمعه ضمن ما يعرف بمصحف عثمان بن عفان الذي اتفق عليه المسلمون جميعاً, فما الذي يمنع من جمع الحديث النبوي الشريف بين دفتي كتاب أسوة بالمصحف الشريف?‏

وبعد أن طبعت الجزء الأول من تلك الموسوعة ثار لغط كبير ووصل الحد إلى أن مفتي إحدى أكبر الدول الإسلامية أفتى بأنني زنديق.‏

ورغم أنني تلقيت دعماً كبيراً من أجلة العلماء وعلى رأسهم الصديق العلامة وهبة الزحيلي الذي لم ينفك كلما التقيته عن تحريضي على طباعة تتمة أجزاء الموسوعة ومن أخيه محمد الذي كتب دراسة مستفيضة ومن الشيخ حسين شحادة الذي ألف كتاباً عن منهج الموسوعة ومن تقريظ آل الفرفور ومن حماسة الصديق محمد شحرور الذي يبادرني كلما التقاني بالقول الله لا يسامحك إذا لم تكمل الموسوعة فإن الأمر يبقى أكبر من ذلك بكثير.‏

فالتقدميون واليساريون لا يعنيهم الأمر من قريب أو بعيد والغالبية العظمى من رجال الدين يهمهم أن يبقى الحال على ما هو عليه.‏

وحين جاهرت بأن علم الحديث يمشي على رأسه بدلاً من أن يمشي على قدميه كان أمراً طبيعياً أن يشعر المرتزقة من علم الحديث بالخطر على مناصبهم ومكاسبهم.‏

بدهي أن علم الحديث هو نص كلامي أولاً وأخيراً لكن جميع علماء الحديث اشتغلوا بالسند ولم يعيروا للنص الكلامي أي اعتبار وهكذا أثقلت المكتبة العربية بشيء اسمه علم الرجال من ضعفاء وثقاة ومن معاجم وتواريخ ومن رجال البخاري ورجال مسلم ورجال الصحيحين وشيوخ فلان وعلتان وحتى تاريخ البلدان الذي فاقت أعداده عن ثمانين تاريخاً وعلى رأسها تاريخ بغداد وتاريخ دمشق كتبت لخدمة رجال الحديث وحتى كتاب الأنساب للسمعاني وكتاب معجم البلدان لياقوت الحموي كتبا لخدمة رجال الحديث.‏

ثمة ما لا يحصى من النصوص الحديثية المتقاطعة بين المذهبين الكبيرين لكن أحداً لم يهتم بهذا الأمر لأن الاتجاه مشوه بالكامل في الاعتماد على رجال السند فقط من دون التعامل مع نصوص الأحاديث.‏

تصوروا أن الأحاديث المتقاطعة بين المذهبين الكبيرين أكثر من أن تحصى وأنها وصلت إلى حدود من التماهي لا يمكن وصفه, وأعتقد جازماً أن غالبية علماء المذهبين الكبيرين لا تعرف أن حديثاً مثل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغتسل مع عائشة في إناء واحد اسمه الفرق هو مشترك في التراث الحديثي للمذهبين الكبيرين.‏

وإنه لأمر مؤسف أنني حين عرضت وضع كتاب للأحاديث المشتركة بين المذهبين الكبيرين لم أجد مشجعاً أو مناصراً أو مؤازراً ويبقى التقارب الإسلامي بشكل من الأشكال كلمة حق أريد بها باطل ويبقى ما قاله الإمام علي رضوان الله عليه (هلك فيَّ اثنان, محب غال ومبغض قال) هو الذي يعكس الواقع بحذافيره, وطالما أن المسلمين يضعون المذهب قبل الدين ولا يفكرون بشكل جدي بإسلام ما قبل المذاهب فإننا سنواجه مزيداً من التشرذم والتفتت والتآكل.‏

تعليقات الزوار

أيمن الدالاتي - الوطن العربي |  dalatione@hotmail.com | 12/08/2007 00:14

مقالة اليوم والحمد لله ليست من سلسلة القراءة في الإستراتيجية, ومن عنوانها إلى نصها فإن الموضوعي لايمكن إلا أن يتفق وبسهولة مع ماسرده الكاتب, إنما يصعب التوافق معه على كل التفاصيل, فتراثنا لانبدؤ الحديث عنه بعيوبه أولا أو بسلبياته أولا, بل الحاجة أن ننظر إليه بأدوات عصرنا الحالي فمن ينفذ من المنخل يصلح لنا , ومن يبقى بالمنخل نودعه متحف التاريخ, وبغض النظر من قال هذا ومن فعل ذاك, أي ننظر في مضمون القول وندع عنا صاحب القول, ثم إن الموضوعية ستوصلنا حتما لنهي الرسول الكريم عن تدوين الحديث, فكيف نستمر بهذا؟, كما أن القداسة للخالق وليست لمخلوق قط ولو كان رسولا أو نبيا, وكون الكاتب مغرم بإحصاء تعداد بعض الكلمات والمصطلحات فقد لفت نظري وباستغراب عدم استعمال الكاتب لكلمة كهنوت في هذا النص الذي يشير لسلبيات تناولنا للتراث ومحتواه, وهي في جلها بسبب إدخال الكهنوت على الإسلام كتقليد أعمى لكهنوت اليهودية والمسيحية, ويبقى رجائي أن يتوقف الكاتب عن استغلال مساحة مقالته ليذكرنا بكل عمل له وبمن شجعه عليه فيعظمه وبمن نهره عنه فينزل به, حتى غدا أسلوب الكاتب هذا ينطبق عليه شعر جرير الذي ساقه في المقال بكفتي التعظيم والهجاء, وفعلا صرت أشعر بحاجة الكاتب للتواضع قليلا, مع سروري لمقالة اليوم.

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 برهان بخاري
برهان بخاري

القراءات: 1410
القراءات: 1321
القراءات: 1767
القراءات: 3120
القراءات: 3196
القراءات: 2219
القراءات: 2014
القراءات: 1274
القراءات: 2306
القراءات: 1682
القراءات: 1686
القراءات: 1593
القراءات: 1465
القراءات: 1619
القراءات: 1327
القراءات: 1360
القراءات: 1568
القراءات: 1554
القراءات: 1606
القراءات: 1355
القراءات: 2454
القراءات: 1438
القراءات: 1348
القراءات: 1552
القراءات: 1844

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية