أتاح لنا أن نقرأ ونطلع على الكثير من القصص والحكايات التي مر بها الكثيرون، ووجدوا متسعاً لسردها وتقديمها لتكون بمتناول الجميع.
صحيح أن القراءة ليست بمتعة السفر، ولا يمكن أن تقدم التجارب التي تروى من خلال المدونات بعمق التجربة والواقع، وقديماً قالوا: ليس من سمع كمن رأى، وغالباً لا نتعظ بتجارب الآخرين، بل ندفع ثمن التجارب من حيواتنا، مع أن الأمثلة التي تحضنا على أخذ العبر من الآخرين كثيرة، تبدأ بمقولة الحكيم: من اتعظ بتجربة غيره، ولا تنتهي: بمن جرّب المجرّب عقله مخرب، وربما نستذكر هنا: أن الحكمة كانت بجمل قديماً، واليوم لا جمل ولا حكمة، بل سرعة وطيش وتهور، لا ننتبه إلى أن الكثير من الدروب المزخرفة قد تنتهي بنا إلى حيث لا نتمنى، ومع ذلك نغامر ونمضي قدماً، ربما هو طيش الشباب، أو من أجل إثبات أننا قادرون على أمر ما.
بكل الأحوال، من مدونات الأزرق اللطيف قطفت أكثر من حكاية، ما أحوجنا إليها، وقد أعادتني إلى أيام الطفولة، حين سمعت بنهر الفرات لأول مرة، كان أبي رحمه الله يقول لنا: لا تسرفوا بالماء، ولو كنتم (على الفرا) أي على الفرات, حتى في فصل الشتاء، كان يتمنى علينا أن نستهلك حاجتنا من الماء، ويردد على مسامعنا قولاً شائعاً (الماء أعز مفقود...).
أمس قرأت ما كتبه أحدهم من تبرمه عندما كان شاباً, من نصائح أبيه، حين كان يرى مصباحاً يعمل من دون حاجة، أو صنبور ماء ينقط من دون أن يصلحه أصحابه، يقوم الأب بالبحث في البيت عما لا حاجة لإشغاله، ويطفئه، الشاب الذي يروي ذلك يقول: سمعت أن مسابقة ما ستجري لاختيار موظفين، فقررت أن أشترك بها لأرتاح من تتبع أبي، صباحاً هممت بالخروج فإذا بأبي يودعني ويقول لي: كن إيجابياً، مضيت إلى الشركة، فور دخولي رأيت قبضة باب تكاد تسقط،أصلحتها، قرب مدخل ما، ثمة مصباح يشتغل ولاحاجة له، أطفأته، وحين عبرت ممر الحديقة، رأيت هدراً بالماء، فعملت على معالجته عملاً بنصيحة أبي، وفي مكتب الانتظار المئات من الشباب، يدخلون ويخرجون، هممت بالانصراف، لكن أحدهم ناداني: تفضّل، دخلت ليقول لي المدير: متى تبدأ العمل؟
أبدأ العمل؟ نعم العمل، ترددت قليلاً، وأجبت حين أجتاز الامتحان بنجاح، رد المدير: لقد نجحت، كنا نراقبك، نتابع سلوكك، ويضيف الشاب: عدت لأقبّل رأس أبي، لكنه كان قد ارتفع إلى السماء.
تجربة خاضها شاب يعترف أنه كان يتبرّم من كل ما يقوم به والده، ولم يكتشف أن الحرص على كل شيء هو ثروة لنا جميعاً، الحرص وليس البخل، فماء الفرات إذا ما أهدر ينفد، ومال قارون كذلك، فما بال الذين لايرون كيف يهدرون بضعة آلاف نتقاضاها، يهدرونها بترك الحبل على الغارب لفوضى التجار، لفوضى السوق، كل إهمال هو هدر لنا، وتضحية بمقدراتنا على بساطتها.