وقد ازداد هذا الدور مساءلة وحضوراً بعد الحرب الظالمة على سورية.. فكان هناك دائماً تلك الحيرة بين الثقافة ودورها وبين المثقف وتأثيره في المجتمع من خلال المنتج المعرفي للمثقف.
لكن لا بدّ من التأكيد على أن مجتمعنا العربي مجتمع غير قارئ.. وبالتالي هو خارج منظومة المعرفة والوعي والثقافة، بحيث يركن هذا المجتمع دوماً للتقاليد والعادات وللموروث الشعبي الذي حفظه وخزنه في لا وعيه، رافضاً خلخلة هذه العادات أو التخلي عنها باعتبارها إرث الآباء والأجداد.
وما يصدر عن هذا الإرث لا يكون - بحسب وعيه - إلا صحيحاً فضلاً عن أنه يهاجم كل تحوّل أو تبدّل أو تجديد.. فيغلق ذاكرته وعقله ولا يقبل أن يدخل إلى مخزونها الثقافي أي شيء فيبقى في إطار التطرف والثبات، وهنا لا بدّ من ذكر أهم كتب الشاعر والمفكر أدونيس ( الثابت والمتحول ) .
ونتيجة لدراسات وأبحاث أدونيس يتبين أن المجتمع العربي مجتمع ثابت بالمجمل تقريباً، لأن أي تحوّل يعتبر بدعة.. والبدعة حرام، لذلك بقي العرب في عباءات الأجداد والآباء وفي عمامات اللغة والتشريعات.
من هنا يصعب على المثقف أن يقوم بدوره أو أن يكون فاعلاً في مجتمع ثابت لا يقرأ ولا يجادل ولا يحاور فضلاً عن تفشي الأمية والفقر والتخلف.. ما أدّى إلى التطرف ورفض التجاوب والاعتراف بالمتغيرات التي طرأت على حياة المجتمع في زمن العولمة والميديا.
غير أن هذا لا يبرر للمثقف ألّا يكون مع أمته وشعبه في الأزمات والحروب - وبقدر الإمكان - وبما هو متاح للكلمة من قدرة على التغيير، وقد تبيّن أن هناك أدباء لم يتركوا الساحة للفراغ ولم ينحازوا إلا للوطن والمواطن.. وقد دفعوا ثمناً غالياً وهذا يعتبر وساماً على صدورهم لأنهم تصدّوا لهجمة التشويه الثقافي والمعرفي التي مارسها أعداء الوطن، إضافة إلى المحاولة الجادة للتأريخ لمرحلة مؤلمة في تاريخ سورية والتصدي للتشويه وضياع الهوية والقيم من خلال ما يكتبون وينتجون من روايات وقصص وأبحاث تجابه وتقف بالمرصاد لما ينشره الأعداء.
ولكن هذا لا يعني أن هناك مثقفين وكتاباً لا يتجوّلون في المواقف السياسية كما يتجوّل السائح في البلدان فمرة هم تقدّميون ومرة هم سلفيون، يتبنون فكراً ومن ثم يتنكرون له ليتخذوا موقفاً جديداً بعد فترة يؤهلهم لمعترك الجوائز والندوات الدولية والعربية.
وقد تجلّت ظاهرة التحوّل والتغيّر بين الأدباء والمثقفين منذ بداية هذا القرن الحادي والعشرين.. فبتنا نسمع عن أدباء لهم مواقف سياسية معادية لهويتهم وانتمائهم وقضاياهم من أجل إرضاء الغرب ونيل الحظوة في الاعتراف بهم، وكلنا يعرف أسماء سوريّة وعربية باعت قضيتها ولم تفكر يوماً بالقضايا المصيرية للشعوب المغلوبة على أمرها والمضطهدة من قبل الدول المستعمرة التي تخلّت عن شكلها ووجهها القديم وبرزت لنا بوجه آخر أكثر عنفاً وأكثر قبحاً وخطورة وذلك من خلال الحروب الثقافية والفكرية وشعارات العدالة والحرية والديمقراطية إضافة إلى زعزعة الثقة بالهوية الوطنية والانتماء والقومية.. وقد ركب كتّاب سوريون - كما ذكرت - تلك الموجة وتركوا البلاد وقضاياها متنمرين على كل المبادئ والقيم باعتبار أن الأدب لا ينزل إلى القضايا اليومية والأوجاع الآنية.. وكأنهم أكبر من المتنبي أو من أبي نواس أو من باقي كتاب العالم الذين جاءت أهميتهم ومكانتهم من حمل قضاياهم ورفعها إلى نصوص أدبية خالدة لا يمكن للقارئ أن ينساها، وحين يقرؤها لا بدّ أنه سيتعاطف معها ويحسّ بإحساس أبطالها.
إن الأدب - وبالرغم من تراجع القراءة وضعف عدد القراء - إلا أنه لا يزال مهماً وفاعلاً في التصدي لكل أشكال القهر والاستلاب والظلم والتشويه.. ويبرز هذا الدور الضروري كما - ذكرت - في الأزمات.. فما أحوجنا الآن للكتاب المميزين الوطنيين القادرين على استنهاض الوعي وزرع المعرفة والفكر والتصدي لحملات المحو والتشويه والخراب الذي يطول ثقافتنا وقضايانا وإنساننا المقاوم.
إن الكلمة تعادل الرصاصة في هذا الزمن، لذلك يحارب الأدباء المنتمون كما الجنود على الجبهة، وخاصة الأدباء المؤثرون الذين يثق بهم المجتمع ويقدّر نتاجهم العالي لأن للكتابة أصولاً وللنص أسلوباً ورؤيا تحمل فكراً مؤثراً، وليس كل ما يكتب هو عظيم وخالد مهما علت القضية التي يتبنّاها أو يدافع عنها الكاتب أو النص.