| قراءة أولية في الاستراتيجية السورية (11)المسألة الدستورية (2) معاً على الطريق فلم يعد مقبولاً من الناحية الاصطلاحية, على سبيل المثال أن يكتنف الغموض كلمة مفصلية خطيرة مثل (العلمانية), وأن يستمر الالتباس حولها إلى حد اتهام العلمانيين بالإلحاد والكفر والزندقة. وجوهر الالتباس حول كلمة (العلمانية) ناجم عن خطأ صرفي بحت يتركز حول كسر العين أو فتحها, بمعنى العِلمانية أو العَلمانية, وبما أن الصيغة الثانية غير مألوفة في اللغة العربية فلقد اتجهت غالبية العوام من العلماء والباحثين إلى اعتماد الصيغة الأولى بنوع من الجهل المطبق. وحقيقة الأمر أن كلمة (عَلمانية) كما أسلفت في بعض المقالات هي ترجمة حرفية لكلمة (Secularism), والتي تعني الخضوع الكامل للقوانين الطبيعية والوضعية للعالم أو الكون, فالطبيب الذي يطلب تحاليل دم وبول وصوراً شعاعية وخزعات هو علماني حتى لو صلى الصبح حاضراً, والقاضي الذي يحكم بنزاهة ضمن روح ومنطق وبنود القانون هو علماني حتى لو كان من أشد المحافظين على العبادات. ما يحز في النفس أن مجموعة من علماء الدين الذين تنطعوا للفتوى ولقضايا أكبر من أفواههم بكثير هم مجموعة من الجهلة الذين يفتقرون إلى الحس المنطقي والمعرفي العفوي الذي يتمتع به الأميون المثقفون. فالدكتور (زغلول النجار) الذي (فلقنا) بشطحاته والذي أدخل القرآن الكريم في مآزق هو في غنى عنها تماماً عبر مفهوم (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) قال في إحدى حلقاته التلفزيونية إن (العِلمانيين) هم أبعد ما يكونون عن العلم وإن العلم منهم براء, الأمر الذي يدل على جهله, ناهيك عن أنه هو نفسه يمارس العلمانية في معظم طروحاته التي تعتمد على القوانين الكونية, لكنه يلوي عنق الحقيقة بفذلكاته. تعاني الصحافة من غياب المفهوم الدقيق للمصطلح فليس ثمة حدود واضحة للفرق بين الصفحة الأولى والصفحة الأخيرة والصفحات الداخلية ولا بين المانشيت والعنوان أو بين المقالة والزاوية والخاطرة والعمود والمقال البحثي. قبل بضعة أيام التقيت بالصديق الدكتور جورج صدقني في مجلس عزاء الصديق الراحل اللواء حسن عباس ذلك العالم الذي قدم مجموعة من الإبداعات في ميدان اللغة, والذي كان أتحفنا بكشوف حقيقية لو أتيحت له فرصة التعامل مع الألسنية المعاصرة والألسنية الحاسبية خاصة, فقال لي في معرض تعقيبه على مقالاتي.. لابد أنك تتعب كثيراً وتنفق جهداً كبيراً على كتابة مقالاتك. وحقيقة الأمر أن هذا التعقيب جعلني أعيد النظر في أمور كثيرة, من ضمنها أن أطلب نقل بعض مقالاتي إلى الصفحات الداخلية لأنها أقرب إلى البحث العلمي منها إلى المقال الصحفي. وفي دردشة مع بعض الأصدقاء حول هذا الموضوع خرجنا بنتيجة مفادها أن هذه المقالات وإن كانت تخصصية وثقيلة في بعض الأحيان لكنها تلقي أضواء مكثفة على بعض القضايا المفصلية وعلى رأسها المسألة الدينية. ما دفعني إلى قول هذا الكلام هو حاجتي لممارسة نوع من الثقل العلمي التخصصي في مقالي هذا ليس فقط من أجل البحث عن أصل كلمة (دستور), بل للتأكيد أيضاً على الأضرار الفادحة التي حاقت بالعرب جراء تقصيرهم في التعامل مع مفهوم (الآرابوفونية), ولإلقاء أضواء على البؤس الذي تتسم به الأكاديمية العربية. والحقيقة أن مفهوم الآرابوفونية والذي سبق أن أفردت له مقالين إضافيين هو مواز لمفهوم الأنجلوفونية والفرانكوفونية, فالحرف العربي كانت تستخدمه ثلاث وثلاثون لغة, ولقد فوجئ عدد من علماء الدول الإسلامية وعلى رأسهم الأوزبيكيون والإيرانيون حين قلت لهم إن قرابة ثمانين بالمئة من مفردات لغتهم عربية. وقبل الدخول في تفاصيل كلمة (دستور) سأضرب مثلاً لا على التعيين من معجم فرنسي-فارسي وسأضع المقابل الفارسي لكلمة (Nature)والتي تعني الطبيعة, حيث نجد ما يلي: طبع - طبيعت - فطرت - وضع - طبيعي - قريحة - سريرة - طينت - طوية - سجية - سجايا - كافة موجودات - كاينات - هيئت واقعي.. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: أين الكلمة الفارسية وغير العربية في هذه القائمة الطويلة من المترادفات? نأتي الآن إلى أصل كلمة (دستور) فهده الكلمة ليست عربية اتفاقاً, فجذر (دست) غير موجود في المعاجم العربية القديمة, والمفتاح الأول لهذه الكلمة الملتبسة هو الإضافات المعاصرة على معجم الصحاح للجوهري حيث نجد: الدستور في الاصطلاح المعاصر مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها ومدى سلطة الأفراد. أما الموسوعة العربية الميسرة فتتجنب الدخول في أصل الكلمة وتبتدئ قائلة: دستور: القواعد الأساسية للحكم في أي دولة, كما تدل عليها قوانينها ونظمها وعاداتها, أو كما هي مثبتة في وثيقة أو عدة وثائق, ومن النوع الأول الدستور البريطاني.. وأما معجم الوسيط الذي وضعه مجمع اللغة العربية في القاهرة فلا يخوض أيضاً في أصل الكلمة ويبدأ قائلاً: الدستور: القاعدة يعمل بمقتضاها والدفتر تكتب فيه أسماء الجند ومرتباتهم, وفي الاصطلاح المعاصر مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها ومدى سلطتها إزاء الأفراد. وحده معجم المنجد يتطوع بإعلان أن الكلمة فارسية ذاكراً معلومات شبيهة بما أورده معجم الوسيط والذي يبدو أنه نقله عن معجم المنجد نظراً للأسبقية الزمنية للمنجد على الوسيط. ومهما أحاط بكلمة دستور من لبس وغموض وإشكالات فإنها تبقى بالمعنى المعاصر مكافئة لكلمة (Constitution), وعليه ننطلق من ظلال المعاني المحيطة بهذه الكلمة الأجنبية كما أدرجها المعجميون ونبدأ من معجم المورد حيث نجد مقابل كلمة (Constitution) ما يلي: عرف - قانون - تكوين - قوام - بنية الجسم - مزاج - دستور. أما في المعجم الفرنسي-الفارسي فنجد ما يلي: بنية - مزاج - وضع - خلقت - قانون عمده مملكت. وفي المعجم الانكليزي-الفارسي نجد ما يلي: تشكيل - تأسيس - مشروطيت - قانون أساسي - أساسنامت - نهاد - شرست - ساختمان - مزاج - بنية. وواضح من هذا الاستعراض أن كلمة (دستور) غير معروفة أو مستخدمة في الفارسية, الأمر الذي يكشف ارتجال معجم المنجد في رد أصول هذه الكلمة إلى اللغة الفارسية, ورغم أن كلمة دستور بدأت تدرج في الفارسية حالياً لكن من الواضح أن هذا الأمر جاء متأخراً كما جرت استعارته من العربية, وأما في المعاجم التركية المختلفة فلا وجود لكلمة دستور. وأما في المعجم الانكليزي-أوردو والتي هي لغة باكستان الرسمية فنجد ما يلي: (Constitution): ساخت - تركيب - بنارا - نظام - آيين - دستور أساسي - مزاج - سرشت - فطرت - طبيعت - قديم تاريخ فرمان - حكم نامه - ضابطه. وهكذا نجد أن كلمة أو لفظة دستور لم ترد حسب المعاجم التي في حوزتي إلا في لغة الأوردو وحسم أصل كلمة دستور بحاجة إلى غير هذا المقام, المهم أن يكون القارئ العزيز قد أخذ لمحة خاطفة عن الآرابوفونية. وبما أننا على أعتاب استحقاقين دستوريين كبيرين فإن الواجب يقتضي أن نلقي أضواء مكثفة على الدستور تتناول أصل المفردة وتطور دلالاتها وشكل مسيرتها والتبدلات التي طرأت على مفاهيمها, وما يمكن أن نفعله تجاه مفهوم تعديل الدستور وتطويره بما يتناسب مع خصوصيتنا ومع تطلعنا لتطبيق أقصى حد ممكن أو متاح من الديمقراطية. burhanboukhari@gmail.com
|
|