إنه الطالب الذكي النشيط والجريء في مناقشاته مع أساتذته.. وكأن هذه المناقشات في تلك الفترة المبكرة من حياته كانت نقداً وعناوين لموضوعات انتزعت إعجاب المؤلفين في البلاد العربية كلها. وقد كتب أول ما كتب سيرته الذاتية بأسلوب متفرد متميز بين أبناء جيله من المؤلفين والباحثين.. وكأنه فتح الباب على حياته الخاصة ليدخل إليها من يدخل.. وليقرأ فيها من يريد أن يقرأ.. وماذا يقرأ؟
وبما أننا كنا من تلك الفئة القليلة التي ارتبطت بالمعهد العالي للمعلمين فقد كانت هذه الفئة جادة ومجتهدة لكي تحافظ على طريقها الملتزم.. وهي تعرف تماماً أنها لن تستقبل قبل اثني عشر عاماً سوى التدريس لأنه شرط قبولها في المعهد. وهكذا مال عبد الكريم بحماسة وشغف إضافة إلى ميوله الأدبية واللغوية نحو تلك الأبحاث التي ظهرت في كتب لا تعرف العربية إلا القليل منها، وهي على سبيل المثال: (معالم في النقد العربي الحديث)، (شعر دعبل بن علي الخزاعي)، (تحقيق كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ) وهو كتاب صغير لكنه عظيم الفائدة. أما كتابه (ديوان العرب) فإنه لم يفاجئنا لأن الأشتر بدأ غوصه في بحر اللغة العربية وآدابها في العصر العباسي ولابد أن يكون تمهيداً رائعاً للأدب العربي كله.. وقد نال هذا الكتاب إعجاب المؤلفين والمبدعين في النقد في سائر البلاد العربية، وطبع أكثر من مرة، واعتمد في بعض الجامعات العربية.
وهذا لا يعني أن عطاء عبد الكريم قد اقتصر على هذه الكتب أو المؤلفات لأن له باعاً طويلاً في المحاضرات والندوات.. وفي المواضيع شتى تصل بنا الى ما نحن فيه ونعيشه منذ الخمسينيات من القرن الماضي. ولم تتركه الصحافة ولو أراد أن يتركها لأنه أصبح شخصية فريدة تخطف الأبصار والبصائر عند شريحة مهمة من المثقفين في الأدب العربي وفنونه مادامت الميول قد اتجهت إلى الأدب الحديث عموماً وإلى ما يبتدعه الغرب من مدارس أدبية بشكل خاص.. وكأن الأشتر بجهد فردي استطاع أن يكمل ذلك الغطاء المذهب المزركش للأدب العربي عموماً.
هل يمكن لنا نحن رفاقه في مدرجات جامعة دمشق التي لم يكن سواها في القطر باسم الجامعة السورية أن ننسى ذلك الزميل المتفوق والعزيز والذي نفخر به؟ لا.. لا يمكن.. لأن حضوره وهو طالب كان يبشر بموهبة كبيرة في النقد خصوصاً.. وكنا نفتقد تلك الأقلام الجادة في سورية التي يمكن أن تنافس مؤلفي مصر مثلاً، أو ترجمات الجزائريين وأهل تونس والمغرب العربي. وما كنا نلتقي إلا نادراً، وكل منا في مشاغله ضمن مكان مختلف عن الآخر بين دمشق وحلب مثلاً، أو دمشق واللاذقية، وهكذا.
وتشاء الظروف أن ينسحب (عبد الكريم الأشتر) من عالمنا العربي وهي أقسى الظروف.. وكأنه يترك عالمه الأدبي لينقذ نفسه كأديب في هذه الموجات التي لم نعرف لها حتى الآن مثيلاً في سورية.. أو لعله اختنق في هذا الجو المشحون.. لكن لتطمئن روحه بأنه ترك زاداً عظيماً لطلابه.. ولجيل بأكمله.. وعزز انتماء هذا الجيل إلى الوسطية في الدين.. وإلى التمسك بالعروبة.. وإلى العناية بالشخصية العربية السورية التي تبحث دائماً عن المكان الأفضل.
ليرحمك الله يا عبد الكريم.. ولتمتلئ نفسك راحة في جنات الخلد.. فالخالدون ليسوا الأبطال والفاتحون فقط بل هم الذين يفتحون أبواب التاريخ.. ويمدون خيوطهم الثمينة بين الأرض والسماء لتعزز المكانة لهذه الأمة وروح البقاء.