تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الأجداد يزورون الأحفاد

المهماز
الأحد 27/5/2007
الكاتب الكبير زكريا تامر

زارنا يوسف العظمة متسائلاً : ألا يزال الناس يرحبون بالموت دفاعاً عن أوطانهم?

فحملقنا إليه بارتياب ودهشة, وقلنا له إن الناس الآن نوعان فقط, نوع لا يستشهد إلا في سبيل صفقة أو مناقصة أو فيلا أو إمرأة أو سيارة, ونوع يموت كل يوم سبع ميتات من أجل الحصول على الطعام والمال الكافي لإيجار البيت وتسديد فواتير الماء والكهرباء والتلفونات, فابتعد يوسف العظمة عنا على عجل كأننا مصابون بالكوليرا, وغاب عن أنظارنا, ولعله عاد مسرعاً إلى قبره, فأراح واستراح.‏

وزارنا شكري القوتلي مهموماً قلقاً, وقال لنا بصوت خافت وقور إن الحصول على الاستقلال صعب, ولكن الحفاظ عليه أصعب وأشق.‏

وزارنا أبو رغال, وذكّرنا متفاخراً أنه كان مرشد الأحباش يوم غزوا مكة, وتحدث مطولاً عن تلاميذه النجباء وما يظفرون به من مغانم جمة, فالمناصب لهم, والثروات لهم, والأمجاد لهم, والجنة لهم, وليس لأعدائهم سوى جهنم الدنيا وجهنم الآخرة.‏

وزارنا سيد الشعراء أبو الطيب المتنبي, وسألنا بلهفة عن أحوال الشعر والشعراء, فلم نجاوب عن سؤاله, واكتفينا بأن قرأنا له بأصوات متباهية مختارات من قصائد كبار الشعراء العرب الأحياء, وانتظرنا رأيه, فابتسم ظاناً أننا نمازحه أو نخدعه أو نمتحنه, وقال لنا إن تلك القصائد هي لشعراء من أرمينيا مترجمة بركاكة إلى العربية, فذهلنا, واقتنعنا أن المتنبي أصابه الخرف, وأثرت السنون المتعاقبة في ذائقته الشعرية, ولم يعد يفرق بين الحصى والألماس, وما حدث له أمر طبيعي, فلا شيء يبقى على حاله, ولا منجى له من التبدل, فالقمة تتلاشى أحياناً وتصير وادياً.‏

وزارنا زرياب, واستمع إلى أغانينا المنتشرة, وشهق متعجباً, ووصفها أنها زقزقة في بقبقة.‏

وزارنا الثائر الشاغوري حسن الخراط, وحدثنا عن حياته الحافلة, وختم حديثه بالقول إن التضحية بالنفس هي أفضل مطهر للإنسان, فضحكنا بمرح, وقلنا له إن الناس حالياً يفضلون الماء الساخن والصابون المعطر المستورد.‏

وزارنا محمد مهدي الجواهري, فرحبنا به بحرارة, وسألناه عن جديده الشعري, فأجاب أنه ينظم قصيدة طويلة موزونة مقفاة في هجاء منكر ونكير, ويأمل ألا تعترض الرقابة عليها, فتصايحنا كأننا عميان قانطون وقعوا فجأة في حفرة : وهل الرقابة موجودة أيضاً في القبور?‏

وزارنا قراقوش, ولم يسألنا أي سؤال, وبدا شديد الثقة بنفسه مطمئناً سعيداً كأن أحفاده هم الآمرون الناهون, فحافظنا على أفواهنا مقفلة محملقين إلى أحذيتنا المغبرة.‏

وزارنا الممثل يوسف وهبي القائل إن شرف البنت زي عود الكبريت, فلم نتح له النطق بكلمة واحدة, وبادرنا إلى القول له بسخرية إن الحفاظ على شرف البنت قد تزايد, ولكن الحفاظ على شرف الأمة قد تضاءل وتناقص, فغادرنا على عجل متصنعاً أنه لم يزرنا ولم يرنا ولم يسمع ما قلنا.‏

وزارنا قط عجوز زعم أنه بطل الكثير من حكايات الأطفال, وطلب منا بعض ما يصلح لأن يؤكل, فسارعنا إلى طرده مستغربين حمقه وبلاهته, فنحن الآن لسنا أطفالاًَ, ونسينا أيام كنا أطفالاً.‏

وزارنا جبران خليل جبران, وأخبرنا أنه منهمك في تأليف كتاب جديد عن لبنان عنوانه ( الضمائر المتكسرة ), فأوشكنا أن نزغرد فرحاً, ورجوناه باسم كل القراء أن يسرع في إنجاز كتابه الجديد.‏

وزارنا عمر المختار, وقال لنا إن المشنقة أفضل من حياة الذل, فقلنا له بغير تردد إن حياة الذل مقبولة ومستساغة ومرحب بها إذا لم تختتم بالموت.‏

وزارنا ابن سينا, وأمطرنا بأسئلته حول الشباب ومواهبهم, فقلنا له إن شبابنا هم كشجرة جذورها متغلغلة في التراب, ولكن أغصانها المثقلة بالثمار مرغمة على العطاء في أرض ليست أرضها.‏

وزارنا أبو نواس, وكان متلهفاً على معرفة ما حلّ بالأخلاق, فقلنا له إن البلاد إذا كانت تسير بخجل إلى الوراء خطوة, فأخلاقها تسير إلى الوراء مليون خطوة حتى لم يبق أي وراء, فلاذ أبو نواس بالصمت العميق, ولم يحاول أن يسألنا أي سؤال آخر.‏

وزارنا جمال عبد الناصر, وجلس بيننا مبهوتاً واجماً شاحب الوجه مشلول اللسان زائغ النظرات.‏

وزارنا طارق بن زياد, وقال لنا إن البحر من ورائنا والعدو من أمامنا ولا مفر لنا, فابتلعنا فوراً فزعٌ وهبنا أجنحةً خفيةً حملتنا إلى سررنا وتلفزيوناتنا تاركين طارق بن زياد وحده يواجه البحر والعدو.‏

وزارنا ابن خلدون, وكان جائعاً ضجراً يعاني العطش, فأطعمناه همبرغر ماكدونالد وسقيناه كوكا كولا وأطلعناه على آخر أخبار الدنيا من محطة CNN, فتجهم وجهه من دون سبب وجيه, واستلقى على الأرض, وأغمض عينيه, ومات مرة أخرى.‏

وزارنا أبو القاسم الشابي, فاستقبلناه بفتور, ونصحناه بتعديل قصيدته الذائعة الصيت التي تدعي أن الشعب الذي يريد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر, وقلنا له إن الشعب دائماً يريد الحياة من دون أن يبالي أحد به, وكلما ازداد طلبه للحياة ازداد الموت نشاطاً وفتكاً.‏

وزارنا حاتم الطائي خجولاً متواضعاً التواضع الذي أدهشنا وحيرنا, وسارع إلى تذكيرنا بأن تواضعه بديهي لأن الأغنياء الأحياء قد تفوقوا عليه في الجود والكرم, فهززنا رؤوسنا موافقين على أنهم الكرماء في الخارج البخلاء في الداخل.‏

وزارنا ابن بطوطة, وبشّرنا بأنه سيكتب عن رحلاته إلى البلاد العربية التي سيسميها بلاد الغرائب والعجائب, فلم نسأله أي أسئلة لأننا كنا نعرف الأجوبة .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية