|
شؤون سياسية في حين يتحول عند أمة أخرى إلى قوة دفع واندفاع، تتداخل مع الواقع وتفرض حيثياتها باتجاه إيقاع الحركة نحو المستقبل وفي الحالين كليهما لا ينفصل التاريخ عن حياة الأمم رغم أنه يتحول إلى مادة جامدة مكبلة عند أمة ويتحول إلى طاقة مضافة توجه وتحمي عند أمة أخرى، وباستنتاج رياضي من هذه المعادلة نكتشف أن إرادة الأمة، واقعها وعوامل القوة فيها ومستوى الأداء التفاعلي مع الماضي والمستقبل ذلك كله هو الذي يحدد موقع الأمة من التاريخ ودور التاريخ في حياة الأمة وبالمعنى السياسي والتربوي تبقى المسألة منوطة بتكوين الذاكرة التاريخية، وهذه الذاكرة تستحوذ على صفات محددة أساسها الاعتقاد الجازم بأن وجود الأمة حي وحيوي وأن قوة الانبعاث بالأمس مازالت تصب في اللحظة الراهنة وتحدث النقلة المعاصرة المطلوبة ومن مواصفات الذاكرة التاريخية أن تبقى الاهتمامات بالتحديات وواقع الصراع قائمة إما بالفعل وإما بالاحتمال، لأن الذاكرة التاريخية تنير ولا تتستر، توسع الأفق ولا تحجز عليه، تستشرف القادم والآتي ولا تسمح بالنوم المجاني في ظرف مخدر أو تحت أفياء حلم يابس أو عبر رهانات غير محسوبة، أساسها الوعود الخادعة والكلام المبطن والغدر الدائم من الأقوياء بالضعفاء. إن لدينا في هذه المرحلة مساحة قصوى ودوافع قصوى تنطلق من الحالة التاريخية ثم ما تلبث أن تلقي بكل أحمالها ونتائجها على الواقع والمستقبل من يستطيع منا أن يتجاوز هذه الحقيقة أو يتهرب منها وهي ثابتة موثقة ومعاشة في جذرين كبيرين، في الجذر الأول مازلنا كأمة عربية في مرمى السهام وفي محرق الاستهداف الخارجي تتقاطع علينا موجات الاستعمار وكل طرف يحمل خصائصه ويرتب وقائعه ويبني أدواته على أساس أن يبقى مسيطراً، مهيمناً على الوطن العربي، لم ينقطع هذا التوجه الاستعماري ولم يهدأ ولم يتواز، صحيح أن القوى الاستعمارية عدلت في مناسيبها وطوّرت في أساليبها وأضافت المستجد على قائمة الموروث ولكن البنية الجوهرية للاستعمار والمضمون الحقيقي للعملية الاستعمارية بقيا كما هما تماماً وفي المسألة ثوابت من الوجوه والبنود الموضوعية، فالوطن العربي خزان لا ينفد من الإغراءات التي مازال لعاب المستعمر يسيل شهوانياً طمعاً بها، واستعجالاً للاستحواذ عليها قبل أي تبدل يصيب الحياة العربية الساكنة. زرعت «إسرائيل» في قلب الوطن العربي في مسعى لشق القلب ذاته إلى أجزاء وفي توجه محموم لتجفيف الشرايين المغذية للقلب أو الصادرة عنه، حتى أخذ هذا الكيان الغاصب صفتين لا مثيل لهما في التاريخ كونه هوس الغرب وجنونه وشذوذه الأخلاقي والتاريخي وخلاصته المنقولة براً وبحراً وجواً، من عالمهم وأحقادهم وصراعاتهم إلى قلب الوطن العربي، حتى لقد بدا الكيان الصهيوني من خلال هذه النقطة أنه صورة الغرب وصيغته، مخلب الإمبريالية ونابها وإرسالية المستعمرين وخريطة سير أهوائهم من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب وقد صارت هذه الميزة هي العلامة الفارقة في الكيان الإسرائيلي نفسه، ولذلك فإن المبدأ الثابت في كل الاستراتيجيات الغربية ينص على ضرورة ومصيرية الحفاظ على أمن ورفاهية «إسرائيل» ثم تأتي الصفة الثانية لهذا الكيان لتؤكد الأولى ولكن بطريقة الدور الصهيوني والإسرائيلي بذاته وبما يصبو إليه من أهداف ورؤى أساسية، الآن يقوم الطرح الصهيوني على قواعد وقيم روّجوا لها وكرروها وتسللوا عبر الثغرات العربية وهم يندفعون بها سياسياً وتاريخياً وثقافياً، كانوا غرباء ووافدين وموجات هجرة، الآن يطرح اليهود أنفسهم على أنهم وعد الرب وصفوة التاريخ وحراس الحضارة في المنطقة وأبناء الساميين ومواليد هذه المنطقة العربية الواسعة، ثم إن لهم رسالة كلفتهم السماء بها وأوحت للغرب الإمبريالي أن يقترب من هذه السماء ويعتنق هذه الرسالة، والرسالة عند اليهود هي محور بشقين، شق يقوم بمهمة الإبادة ومحو الذاكرة وتغيير مصادر الحياة ومعالمهما وشق آخر ينفث الغرائزية وينشر معالم مختلفة تحت مسميات التحضر والمجتمع المدني والنموذج الديمقراطي والواحة الخصبة الوارفة والخبرة العملية والصناعية والثقافية في مسعى واضح ليقولوا للعرب جميعاً لقد أعطاكم الله الثروة واكتفى وأعطانا العقل والرسالة، ولاحل إلا بأن نضيف ثروتكم بل وجودكم التاريخي والواقعي إلى رصيدنا العقلي وخصائصنا في البناء والقيادة كما خوّلنا الرب بها والصورة بمجملها تستلزم أن تجري على الوطن العربي منهجية ضبط وربط لا تسكن ولا تغادر المنطقة ليس من حق العرب أن يكون لهم حقوق يطالبون بها أو يناضلون لاستخلاصها بكل الوسائل المتاحة وليس للعرب حق الوحدة وإثبات الذات وأداء الدور وأخذ الموقع تحت الشمس في هذا العالم المضطرب والمتناقض والقائم على البارود والدم وأشلاء من ورود مهشمة عصفت بها الريح وألقتها على رمال الصحراء. |
|