|
ثقافة ما سمي شعر التفعيلة على يديها أو على يدي السياب أو خليل شيبوب أو من قبلهم نسيب عريضة. نازك الملائكة رحلة ابداع مقرونة بالحزن موسومة بأن تكون وحيدة في حياتها ومماتها، ثلاث سنوات على رحيلها وما ترانا نقدم إلا شذرات مما قدمته هي وفاضت به.
التحول تروي نازك الملائكة كيف استطاعت أن تكون نقطة تحول في حركة الشعر العربي الحديث، فحسب قولها بعد صدور «عاشقة الليل» 1947 وبأشهر قليلة انتشر وباء الكوليرا في مصر الشقيقة وبدأنا نسمع أعداد الموتى يومياً وحين بلغ العدد 300 في اليوم انفعلت انفعالاً شعرياً وجلست أنظم قصيدة استعملت لها شكل الشطرين مغيرة القافية بعد كل أربعة أبيات أو نحو ذلك، وبعد أن انتهت من القصيدة قرأتها فأحسست أنها لم تعبر عما في نفسي، ما زالت متأججة وأهملت القصيدة وقررت أن اعتبرها من شعري الخائب (الفاشل) وبعد أيام قليلة ارتفع عدد الموتى 600 في اليوم، فجلست ونظمت قصيدة شطرين ثانية أعبر فيها عن إحساسي واخترت لها وزناً غير وزن القصيدة السابقة. وتخلص إلى القول: إنها حين سمعت أن أعداد الموتى يزدادون يومياً نظمت قصيدة عجيبة الشكل ظنت أنها ستثير ضجة فظيعة، وقد تحمست لها والدتها بعض الشيء وقالت لها إن أشطرها غير متساوية وموسيقاها ضعيفة، أما أبوها فقد ثارت ثائرته وسخر منها واستهزأ بها وتنبأ لها بالفشل الكامل، وراح إخوتها يضحكون لكنها كما تقول قالت لأبيها: قل ما تشاء إنني واثقة أن قصيدتي هذه ستغير خارطة الشعر العربي، وكان ما كان. عاشقة الحزن نازك الملائكة شاعرة حزينة منذ مجموعتها عاشقة الليل التي قدمت لها بقولها: أعبر عما تحس حياتي وأرسم إحساس روحي الغريب فأبكي إذا صدمتني السنين بخنجرها الأبدي الرهيب وأضحك مما قضاه الزمان على الهيكل الآدمي العجيب وأغضب حين يُداس الشعور ويسخر من فوران اللهيب وهذه المجموعة التي تغص بالألم والحزن تشكل معلماً من معالم سيرتها الابداعية، فالليل كما هو معروف الموضوع الأثير لدى الرومانسيين، بثوه لواعجهم وآلامهم وأفراحهم على قلتها، ونازك الملائكة ليست خارج هذا الإطار، فالقصيدة الأولى من مجموعتها السابقة تعنونها بذكريات ممحوة وآخر قصائدها تحمل عنوان مرثية في مقبرة ريفية وما بين العنوانين رحلة ألم وعذاب فما تكاد تعبر عن بارقة أمل حتى تعود إلى حزنها تقول نازك في قصيدتها وادي العبيد: إن أكن عاشقة الليل فكأسي مشرق بالضوء والحب الوريق وجمال الليل قد طهر نفسي بالدجى والهمس والصمت العميق أبداً يملأ أوهامي وحسي بمعاني الروح والشعر الرقيق فدعوا لي ليل أحلامي ويأسي ولكم أنتم تباشير الشروق وحتى عندما تترجم عن الإنكليزية والشعراء الرومانسيين فإنها تختار القصائد الحزينة مثل ترجمتها لقصيدة الشاعر توماس غراي تحت عنوان مرثية في مقبرة ريفية تعيد صياغتها بلغتها وحزنها وآلامها لأنها تجسد جزءاً من حزنها وكآبتها تقول الشاعرة: أوليست هذي الحياة سراباً؟ أوليس الفناء عقبى سناها؟ أوتنجي الألقاب أو مِنح المجد إذا ما الحمام أحنى الجباها؟ يا لوهم الأحياء، كم من حضارات أطاف البلى بها فمحاها كل ما في الحياة ينهي إلى القبر فما مجدها؟ وما جدواها؟ لا تلمهم يا أيها الكائن المغرور إن لم يرق هواك الثوي لا تلمهم إن لم يشد فوقه المجد التماثيل أيها البشري ها هنا لا قباب لا قوس نصر ليس إلا سر الردى الأبدي وهو المرقد الأبيد لقوم لم يرنم مديحهم آدمي على الطرف الآخر ونازك الملائكة الشاعرة المجددة لم تكن كذلك في الحياة الاجتماعية فلها مواقف طريفة لبعض القضايا الاجتماعية ففي محاضرة ألقتها عام 1967 في جامعة البصرة قالت إنه من أبرز الأوامر التعسفية التي غصت بها دور الأزياء وأشقت بها حياة الملايين من النساء في العالم الكعب العالي ويتمثل ضرره الصحي بأن الله خلق القدم مسطحة لحكمة عظيمة تنسجم بها القدم مع الجسم فتساعده على الحركة والحياة والنمو، والصحة تتطلب الكعب الواطئ وأبسط وسيلة لإثبات هذا أن نسأل رجلاً أن يلبس الكعب العالي ويسير نصف ساعة فقط وهذا من المستحيلات. ويتبع السبب الصحي سبب جمالي فني لأن الكعب العالي يضفي التصنع والتكلف على مشية المرأة فتموت الروح الإنسانية الحرة التي خلقت لتكون كريمة، وسعادة العقل والروح في أن يكون الجسم حراً مرتاحاً والكعوب العالية تقتل الحركة الطبيعية قتلاً وتذل الجسم لأنها تفرض عليه حركة مصطنعة. بقي أن نشير إلى أن نازك الملائكة رحلت في القاهرة في شهر حزيران من عام 2007 بعد رحلة عصيبة مع المرض. |
|