تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


جولة في ملتقى الشباب للنحت والرسم.. ترويض العلاقـة بين الأنوثـة وجـذوع الأشـجار

ثقافـــــــة
الخميس 25-10-2012
أديب مخزوم

فجأة تتحول الجولة في ملتقى الشباب للنحت والرسم في قلعة دمشق، إلى ما يشبه التجوال في أروقة متحف بلا جدران، ولا نلبث أن نلمس بعض الإشارات التعبيرية والرمزية والتجريدية، التي تستعيد في بعض جوانبها،الرموزالتاريخية

في معظم الأعمال المنجزة، لتقربنا أكثر فاكثر من تنويعات الحضارات المتراكمة في ذاكرة التاريخ السوري والعربي، حيث نتوقف ونتأمل إيماءات الأشكال النحتية المبسطة والمختصرة والمجردة (أجساد وعناصر مختلفة وصياغات تتفاوت بين التعبيرية والتجريدية) ونعلم أن تكاوين بعض هذه الأشكال النحتية الحديثة، مستشفة أحيانا من تداعيات التراث الاسطوري، للوصول الى منحوتة حديثة مرتبطة بروح التاريخ الحضاري، القادر على إعادة طرح التساؤلات، حول قضايا الديمومة والانتماء والحداثة والمعاصرة.‏

وملتقى النحت والرسم الذي أقامته مديرية الفنون الجميلة في وزارة الثقافة والمعهد التقاني للفنون التطبيقية تحت عنوان (إبداعات شبابية) شارك فيه في مجال النحت: ربيع قرعوني ورشا ديب وجوليا وهبة ونسرين الصالح وعبير وهيب وولاء كاتبة ووضاح سلامة وهادي عبيد وساندي أحمد ومنتجب اليوسف.‏

وفي مجال الرسم شارك: بتول الماوردي وعفاف يونس وجلال محارب ومحمود عبد الباري مجدل ومضر قاروط ومازن الأشقر ورائد عباس وجوليانا سلوم وآية بهيج شحادة ووائل السكري.‏

تحاور وتبادل للخبرات‏

وتبرز الأهمية في ملتقيات النحت، إنها تمنح الشبان الجدد فرصة للعمل والتحاور وتبادل الخبرات، وتفتح لهم مجالا للاطلاع على تجارب بعضهم بعضا،كونهم غير قادرين على تحمل تكاليف العمل النصبي في أغلب الأحيان. والنحت في الهواء الطلق يبدو بمثابة متحف للحياة العادية، وفيه يعانق التكوين النحتي الندى والشمس ولمسات الريح وتداعيات الحلم التاريخي، والحلم هنا هو عناق الأزميل للكتلة الخشبية وعناق المنحوتة النصبية لرومانسية القصيدة الشعرية.‏

نقترب أكثر فأكثر من الشابات والشبان المشاركين، ونتأمل طريقة إنجاز الأعمال النصبية في الهواء الطلق، ونقارب بين مايحدث في واقعنا الراهن من حروب وويلات ومآس وأهوال، وبين المعاني الإنسانية السامية لرسالة الفن والجمال والمحبة والتعاون والثقافة، ونتفاءل أكثر بقدرة البعض على العمل في الظروف الصعبة، ونتأكد أن ملتقى النحت والرسم والنشاطات الثقافية الأخرى، المتواصلة دون توقف أو انقطاع في المرحلة الصعبة، تمنح المشاهد فسحة من الأمل بعودة الحياة الثقافية، التي أصيبت بفتور أو تراجع قسري في مرحلة الازمة، فملتقى الرسم والنحت هنا هو محترف قصائد اللون والخشب، ومغامرة الانتعاش باكتشاف نتائج اختبارات تشكيلية وتقنية، منفتحة على معطيات فنون العصر، من خلال تقديم طروحات حالمة، تبحث عن نبض الرؤية الساكنة في قلب الكتلة الخشبية أوفي جسدها، تماما كما تبحث عن ايقاعات الرؤية في الخط واللون والمساحة في فراغ السطح التصويري.‏

وفي خطوات المقاربة والمباعدة،لا نلبث أن نعود بالذاكرة الى معطيات الفنون النحتية، التي تتابعت خلال مسيرة تطور فنوننا السورية، ونستعيد بقايا معطيات النسيج التعبيري والتجريدي، الذي أعلن في مراحل سابقة، حداثة التشكيل النحتي السوري، ونتوقف أمام بعض الأعمال التجريدية،ونتذكر حيوية الصراع الفني الذي أثير في دمشق (في نهاية الستينات ومطلع السبعينات) بين أنصار الاتجاهات الفنية التقليدية والحديثة، وما تبعه أو رافقه من تساؤلات حول قضايا الانتماء والحداثة، ذلك الصراع الذي لانزال نشهده، بين انصار التجريد وأنصار الاتجاهات التشخيصية الأخرى، في معظم المعارض والملتقيات والنشاطات المختلفة، ونتذكر من جديد أن ساحاتنا وحدائقنا وأماكننا العامة لاتزال، بحاجة إلى المزيد من النصب والتماثيل أسوة بمدن وعواصم الفن الكبرى.‏

صورة مغايرة للمرأة‏

وأمام معطيات الرموز الحديثة لإشارات الأحلام التشكيلية النحتية والتصويرية، نلتقط بعض الصور للمشاركات والمشاركين، وهم يضعون لمساتهم الأخيرة على أعمالهم الحديثة، ونجري مع بعضهم حوارات سريعة حول نوعية الكتل الخشبية المستخدمة، ودلالات توجهاتهم التعبيرية والرمزية والتجريدية، وما يميز كل عمل على حدة، ونتابع بعض مراحل وضع اللمسات الفنية، باستخدام آلات القص الكهربائية، وبوسائل النحت التقليدية (الازميل والمطرقة ) التي تضفي الملامس الخشنة عل سطح بعض المنحوتات النصبية، وهذه الضربات العاطفية (النقش في إيقاعاته المتحررة ) تعمل على كسر سكونية الكتلة، وتحولها إلى رؤى بصرية حديثة،قائمة على إيقاعات الجسد أو الشكل الحيواني، وصولا الى العمل على تجسيد إيقاعات التناسق والتماثل والتوازن بين الحجم والفراغ، واعتماد الحركة الحلزونية التجريدية، بحركتها التصاعدية المقروءة في بعض الأعمال.‏

ونلمس في سياق تأملاتنا ومتابعاتنا لهذه الملتقيات، أنها تساهم في الحد من انطباع الأجانب السلبي المأخوذ عن المرأة السورية والعربية، لاسيما وأنها تعمل هنا على ترويض الجذوع الكبيرة، الذي يصل طولها أحيانا الى حدود المترين، وتحد من سلبية النظرة العامة للنحت، وذلك لأن النحت على جذوع كبيرة، يعتبر من وجهة نظر المجتمع بمثابة عمل فني شاق، يتطلب المزيد من الجهد العضلي، المفقود في عوالم المرأة وشاعريتها ورومانسيتها، والمتعارض مع نعومتها ورقتها وعوالمها الأنثوية، وبالتالي فالملتقى يقدم صورة مغايرة للنظرة العامة الى المرأة السورية، ويحد من انطباع الأجانب السلبي المأخوذ عن المرأة العربية.‏

بين الفسحات الخضراء‏

كما أن الرسم والتشكيل والجلسات الهادئة، بين الفسحات الخضراء في حديقة معهد الفنون التطبيقية،أعاد لنا شيئا من الاحلام الرومانسية المفقودة،وسط يوميات التوتر والقلق والاضطراب والعنف اللا معقول،الذي يلف حياتنا الراهنة،ولقد حملت اللوحات إيقاعات لونية شاعرية وغنائية تفاوتت بين الواقعية والتعبيرية والتجريدية.‏

وإذا كانت معظم الأعمال المنجزة في الرسم والنحت، قد حملت إلينا إيقاعات تشكيلية، تنشد الاختزال و تصل الى ايقاعات الطرب اللوني البصري، فهذا يدل على أن العمل الفني يجسد هنا تفاؤل تطلعات الشابات والشبان، الباحثين عن إيقاعات جديدة، تساهم ولو بحد بسيط، في إعادة الفرح المفقود الى حياتنا،في مرحلة الاهتزازات والإرتجاجات المستمرة دون حدود أو فواصل.‏

هكذا يأتي الملتقى كردة فعل عفوية ضد يوميات القلق والتوتر والاختناق والترقب الدائم. كأن الطرب التشكيلي البصري الغنائي، الذي نجد تجلياته في معظم أعمال الملتقى، يشكل فسحة للانفلات والخلاص من القلق اليومي, فالعمل الفني في النهاية يمنح العين حركات إيقاعية بصرية للتنفس و التملص من الأحاسيس السوداوية، القادمة من معايشة فصول الدوامة المتوترة لأزمنة الصراعات الضارية والدامية, ويشكل خطوة لإبراز مواقفنا الإنسانية الرافضة لحالات الرعب، عبر هذه الإيقاعات الكتلوية واللونية القادرة على إدخال البهجة إلى العين و القلب معا.‏

والاعمال تبدو اكثر ميلاً نحو الاتجاه التعبيري وتصل احيانا الى حدود اللاشكلية التجريدية, مرورا بالاتجاهات الرمزية والخيالية والاسطورية.. كما تحاول استعادة رموز التراث المحلي للوصول إلى منحوتة أولوحة حديثة تدمج رموز الماضي بمعطيات الحداثة، الحاملة في أحيان كثيرة تداعيات الصياغة العفوية والمباشرة. وبالرغم من تفاوت المستويات فإن المستقبل وحده، هو الكفيل بإبراز المواهب وغربلتها والخروج من خلالها برعيل فني جديد، قادر على الاستمرار، والتوغل في التعبير العفوي الذاتي،في الكتلة واللون معا، لإنه حين يحضر الإحساس والصدق يكون الإبتكار والكشف.‏

هكذا نعلم وقبل خروجنا من ملتقى الشباب للرسم والنحت، أن التماثيل المرتفعة واللوحات الحديثة المتجهة نحو الاختزال، تجسد بعض رموز العودة إلى صفاء الفنون القديمة،التي أعلنها النحات البريطاني الشهير هنري مور في تشكيله لأنصاب المدن الحديثة، تماما كما شكلت لوحات كبار الفنانين المعاصرين، عودة الى جماليات الفنون البدائية القادمة منذ العصور المعدنية الغابرة في فجر التاريخ، بهدف الاستلهام والكشف عن عناصرها،القادرة على الاستمرار والتفاعل مع معطيات الفنون الحديثة والمعاصرة.‏

facebook.com/adib.makhzoum‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية