|
ثقافـــــــة يكتفي الحيوان بفروه أو ريشه أو سماكة جلده... وتكتفي الأشجار بأوراقها. ابتدع الإنسان الثوب عندما تحسّس فكرة (العورة) وعقلنها كي لا تكون مشاعا عند اعتناقه مفهوم الملكيّة فاتسعت وتمدّدت وتطوّرت (ورقة التوت) نحو جلود الحيوانات التي كان يصيدها لحظة انسجام مع الطبيعة فيما يسمّى بالنشوء والارتقاء نحو التأقلم والذكاء الفطري. عندما غادر الإنسان كهوفه بدأ الثوب يتجاوز بعده الاستعمالي في اتجاه الذائقة الجماليّة، فلم تعد الغاية اتقاء لحرّ الصيف وبرد الشتاء، ولا حماية لجسده من المخالب والأشواك والرماح، بل ظهرت لغة جديدة اسمها، التميّز عبر ما نرتديه. أصبح الفكر الإنساني (يطفو) فوق جلد صاحبه ويعلن ثقافته مثل الوشم الذي يفضّ بكارة الجلد ويشي بثقافة مبطّنة تتوارثها الأجيال وتجهد في الحفاظ عليها وإن زالت أسبابها، فترى أبناء المناطق الباردة يتمسّكون بثياب سميكة وإن كانوا يعيشون في بلاد دافئة والعكس صحيح، وتشاهد الإفريقي في أوروبا يتشبّث بالألوان الزاهية والثياب الخفيفة تحت صقيع البرد ورماديّة الطقس. للثياب أبعاد ثلاثة: اللون والنوعيّة وطريقة الملبس... مع أنّ الجسم الإنساني واحد في لغة التشريح والتكوين الفيزيولوجي،لكنّ الفكر الذي يسيّره ليس واحدا وإن توحّد في حاجاته البيولوجية. - اللون: لغة تخصّص لها المجلّدات ولاتوفى حقّها، فهو الذي يصبغ الأفكار ويفسّر الرايات ويفضح الأهواء والاتجاهات، فكأنما البشر أناس (مقشّرون)، يكشفون عن دواخلهم بالثياب عبر رموز تكاد تتفق عليها الانسانية، فهذا الأحمر لون الدماء والانتصارات منذ فجر التاريخ وذاك الأبيض للسلام والاستسلام والسكينة والسكون.... وتلك ألوان الأخضر والأزرق والأسود، كناية على الطبيعة والصفاء والاصطفافات الأخرى، (أصحاب القمصان السود مثلا أيام موسوليني وفرانكو وغيرهم من كتائب التعصّب لفكر شمولي وفاشستي). هذا عداك عن العمائم وأغطية الرأس في بلاد الشرق والغرب التي تتلوّن بتلوّن العقائد على مختلف مشاربها وتتعدّد أشكالها وطرق وضعها ولفّها بمختلف المناسبات، حتى قيل أنّ بلاد الباكستان مثلا يوجد فيها قبّعات بعدد أيام السنة وخصّصت لها أسواق كاملة، أمّا لدى أشقائنا السودانيين فلكلّ طريقة صوفيّة عمامتها التي يفوق بعضها الثمانية أذرع، كما كان الأوروبيون يفرّقون بين سكّان الأقاليم من خلال الطواقي، فهذه تنتمي لإقليم الباسك وتلك لأهالي مرسيليا وأخرى لأعيان باريس. صارت نوعيّة الأقمشة والمواد التي تصنع منها الأثواب تعبّر عن المستوى الاجتماعي والثقافي ومستوى الذائقة ودرجة تطوّر الصناعات النسيجيّة في بلد ما، فالبروكار الدمشقي المرصّع بخطوط الذهب والفضّة والمشغول بصبر وأنّاة وإدهاش، لايمكن إلاّ أن يكون من مقتنيات الملوك والسلاطين والأثرياء،ولعلّ أشهرهم كانت الملكة فكتوريا التي اقتنت منه ثوب زفافها. الحرير سمّيت باسمه أشهر طرق التجارة الممتدّة من الصين إلى البندقيّة ونسجت حوله الأساطير والروايات وأسّس لجسر ثقافي بين الشرق والغرب في علاقة لم تكن (حريريّة ) بالضرورة. الكشمير: نسبة للاقليم المتنازع عليه بين الهند والباكستان، يحاك من فصيلة نادرة لشعر الماعز وبطرق يدويّة معقّدة يورّثها المعلّم لصانعه كما العلاقة بين الشيخ ومريده. أمّا ملابس الجلد ومعاطف الفرو وأطواق الريش التي تعجّ بها الصالونات الأرستقراطيّة وتتباهى بها سيدات المجتمع فترتفع أثمانها بندرة المصدر الحيواني واستعصائه عن الصيد والقنص في غفلة من عيون حماة البيئة وجمعيات الرفق بالحيوان. الحقيقة أنّ النسّاجين والخيّاطين لايحوكون الأقمشة والخيوط وحدها, لا يدبغون الجلود والملابس بمجرّد الأصباغ، ولايطرّزون بإبر من معدن صامت... إنما ينسجون ثقافات تتشابك خيوطها حتى تمسي عصيّة عن الفرز... وكثيرا ماتضيع الإبر التي حاكتها في أكوام قشّ لتاريخ قابل للاشتعال. |
|