تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الجســــــد الثقافــــــي الســـــــــليم..

ثقافة
الاثنين 11-11-2013
 عقبة زيدان

قام علماء الأنثروبولوجيا بالبحث في أصل الجنس البشري وتطوره وأعراقه وعاداته ومعتقداته، ودرسوا السلالات البشرية وخصائصها ومميزاتها.

أعلنوا أنهم يشتغلون على وصف الخصائص الإنسانية البيولوجية والثقافية للنوع البشري عبر الأزمان وفي سائر الأماكن، وأنهم يقومون بتحليل الصفات البيولوجية والثقافية المحلية كأنساق مترابطة ومتغيرة، وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطورة. وصبوا اهتمامهم أيضاً على وصف النظم الاجتماعية والتكنولوجيا، وعلى بحث الإدراك العقلي للإنسان وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصالاته.‏

وبهذه الطريقة يمكن فهم منظومات الإنسان الحياتية التي تحققت عبر سلسلة من الحضارات. تلك المنظومات التي تفتح آفاقاً جديدة في دراسة حضارات الإنسان في شتى أصقاع الأرض.‏

وإذا كانت الثقافة تختص بالإنسان وتُطلَق - حسب ليزلي وايت - على كل الملامح السلوكية التي تميز الإنسان عن بقية الأنواع الأخرى، فهذا يعني أنها الأساس الذي يجب دراسته لمعرفة نمط تفكير وحياة كل مجتمع على حدة. ومن خلال دراسة - أو إمعان النظر - المنظومات الثقافية الخاصة بكل مجتمع، فإننا سندرك أن الثقافة ليست فردية، ولا يمكن أن تكون أو تنمو، إلا إذا تشارك بها وتداولها أفراد مجتمع ما. ويقول المفكر الروسي لازاريف في هذا الصدد: «إن اكتساب مهارة معينة لدى فرد واحد هي خاصة به ولا تتعداه، ولكن عندما تصل إلى مجموعة كبيرة، فإنها تحدث تنشيطاً في الوعي الجماعي، ويصبح من الممكن نقل المعلومات والخبرات بشكل أكثر نشاطاً».‏

إن الوعي الجماعي هو أقوى مسرعات التطور والتقدم. إنه العامل الحاسم في بناء منظومات سليمة من الأهداف، وهو يخلق نمط تفكير جماعياً، يعتمده الكل في الحفاظ على الكل، عبر إشادة قوانين وضوابط أخلاقية واجتماعية عامة، يستطيع فيها الجميع بناء حياتهم والتعبير عن أفكارهم، التي يصونها القانون.‏

يبدأ انحطاط المجتمع - تماماً وبشكل حاسم - في تلك اللحظة التي تنعدم فيها القوانين والضوابط الأخلاقية داخله. ولا نعني بالضوابط الأخلاقية فقط، تلك التي تصون الأفراد وتحميهم من التعدي على أعراضهم وممتلكاتهم، وإنما التي تحرص على قيام كل فرد بما عليه فعله من دون أن يحجر عليه وعلى أفكاره.‏

لا يوجد قانون إداري أو اجتماعي أو حياتي - مهما كان قاسياً وجازماً - يستطيع كبح جماح شخص ليس أخلاقياً؛ هذا ما أثبته تاريخ الجريمة في أكثر البلدان تشدداً. وقد أثبت التاريخ أيضاً أن أقسى القوانين على الإطلاق وأكثرها تشدداً ومعاقبة، لا تستطيع أن تحسن المناخ داخل المجتمع. ألم تسقط بيزنطا بسبب التفسخ الأخلاقي؟‏

تنطلق الثقافة في خطواتها الأولى من الأسرة، وعلى المرء أن يتقبل فكرة التربية الذاتية داخل الأسرة، لأنه عندها تنعدم الحاجة إلى إيجاد مذنبين يحملهم مسؤولية أخطائه. إن انهيار الأسرة يحدث بسبب التفسخ الأخلاقي. ولهذا يكون على أي رب أسرة أن يخلق منظومة أخلاقية سليمة - وشديدة السلامة - كي تستطيع أن تنتج أفراداً صالحين لمجتمع صالح.‏

يخرج المرء المحمل بثقافة أسرته إلى الخارج/ إلى الشارع، ليواجه ثقافة عامة ممهورة بقوانين ونظم، فيعمل على الانصهار في هذا الكل، ويصبح واحداً منهم: يتعلم كيفية التشاركية، والوجود ضمن أسرة أكبر من أسرته.‏

ولكن ماذا إذا كان هذا الوافد الجديد إلى الحيز الأكبر، يملك موهبة فذة، قادرة على تغيير وتطوير المجتمع؟ هل يمكنه أن يبرز ويحقق ذاته، إذا لم يتم تبنيه من قبل المؤسسات الكبيرة أو المجتمع؟ بالطبع لا، لأن مجاله الحيوي ونشاطه لا يتم سوى ضمن البيئة الاجتماعية، وهو غير مسخر سوى لهذه البيئة، التي يعيش فيها ويتنفس هواءها.‏

هناك مثال غربي فظ على إقصاء المبدع: قرأت رواية «تحالف الأغبياء» للكاتب جون كنيدي تول - وهي روايته الوحيدة واليتيمة - كان قد قدمها لكثير من دور النشر، ولم توافق أي منها على نشرها. وحين انتحر جراء إهماله ونبذه ككاتب، قدمت أمه الرواية، ولاقت استحساناً كبيراً ونشرت وترجمت إلى لغات كثيرة. وما يعبر عن حالة هذا الشاب العشريني المنتحر، هو العبارة التي افتتح بها جوناثان سويفت الرواية: «عندما يظهر عبقري في العالم، فإنك تميزه بهذه العلامة: إذ يتحالف الأغبياء ضده».‏

هذا التحالف، هو تحالف أغبياء فعلاً، أي تحالف المؤسسات الثقافية الغربية ضد كل من تسول له نفسه أن يقوم باختراق مصالحها، من دون أن يكون من ضمن تركيبتها، ولا يعبر عن أهدافها الضيقة في الهيمنة والتسيد.‏

حين تملك المؤسسات أهدافاً واضحة، فإنها تسير إلى الأمام، وإذا فقدت أهدافها، فإنها تنحدر إلى الهاوية. وبذلك تكون الثقافة المكتسبة من الأسرة لا معنى لها، ولا تؤدي غرضها التطويري والتغييري، مهما كانت تقدمية وتنشد الخير للمجتمع. إذاً، فعلى المؤسسات المعنية بالثقافة أن تقوم بدور فاعل في تفعيل الوعي الجماعي، ليخدم مصالح المجتمع، ويحقق بالتالي تقدماً للبلاد ككل.‏

لا يعد الاختلاف بين ثقافة مجتمعية وأخرى داخل بلد واحد خطراً أو تهديداً يجب القضاء عليه، بل تنوعاً إيجابياً، فكل ثقافة «مهما تقدم تاريخها، أو صغر حجمها، أو ضاق مجال ممارستها، تظل نسقاً مميزاً، ينبغي تناوله برؤية موضوعية بعيدة عن النوايا المسبقة القائمة على أساليب الإقصاء» كما يقول إدوارد سبير. هذه الرؤية الموضوعية هي التي تسمح لكل ثقافة التعايش مع الأخرى، ضمن القوانين الأخلاقية والبنائية التي تصنع المجتمع الكبير المتجه نحو أفق حضاري أعلى.‏

لا أحد يسير وحيداً، ولا ثقافة تعيش بمفردها، كما أنه لا يمكن لثقافة فردية أن تبني جسداً ثقافياً لأمة. الثقافة مشروع متكامل ما بين الفرد والمجتمع والدولة. وحين تكون أسس كل فرع منهم سليمة، تقوم حضارة قوية ومتينة، عنوانها التقدم أولاً، والتقدم ثانياً، والتقدم ثالثاً، ولا شيء سواه.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية