تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


محمد دكروب..وداعاً

حصاد الورق
الثلاثاء 12-11-2013
يمن سليمان عباس

يحتار المرء أمام قلعة محمد دكروب العملاقة، فأي الأبواب التي يصلح منها الدخول، هذا الكاتب اللبناني الذي رحل عنا في هدوء منذ أيام كان ظاهرة بالفعل، ربما يتوقف كثيرون أمام حياته الدرامية،

وطفولته العابسة أو الصعبة، وخروجه من المدرسة قبل أن يستقيم له أي من الدروس التي يتعلم منها التلاميذ، وحقا هي حياة جديرة بالتأمل، هذا الطفل الذي تنقل في عدة أعمال ومهن كثيرة، حتى استقر عند مهنة السمكري «السنكري» كما يقول اللبنانيون ويضيف شعبان يوسف في اخبار الادب قائلاً.‏

في ظل كل ذلك كان يحصل على ثقافته بين كل هذا الشقاء، وهو لم يستثمر حياته كما استثمرها آخرون، ولم يحولها إلى سلعة رائجة يكتب عنها القصص والحواديت والروايات، ولكن هذه الحياة كانت تفرض نفسها على قلمه بين الحين والآخر، فتأتي حكاية هنا وطرفة هناك، حتى اكتملت لدينا فصول كاملة لهذه الحياة، تصلح لعمل روائي حقيقي، هذا العمل لم يكتبه دكروب كاملا، بل إنه تناثر بين سطوره وحروفه وذكرياته الكثيرة، وبأسلوبه العذب والمنساب تتسرب الحكايات بسيطة وسلسة، وفي ذكرياته عن صديق عمره محمد عيتاني يكتب دكروب عن لقاءاتهما في مدينة «صور»اللبنانية يقول : (دكان محمد دكروب السنكري، بعد الدروس يأتي محمد عيتاني إلى دكاني الصغير هذا، كما كان يأتي عدد من الطلاب والأصدقاء، وتدور الأحاديث، ونغرق في نسيج الأحلام، أحلام كبيرة تتعدى صور ولبنان لتشمل العالم العربي كله، فكم نسجنا من الخطط وطرحنا من الآراء الهادفة كلها إلى تحرير الوطن العربي كله من أقصاه إلى أقصاه من الاستعمار والصهيونية والمستغلين، ...لا أقل ولا أكثر...ودائما كان يقطع علينا أحلامنا هذه صبي يريد أن ألحم له كعب ابريق التنك المفخوت، أو كهل يريد أن أصلح له قداحة الفتيل، أو صبية صغيرة يروي عنها محمد عيتاني هذه الطرفة : (كان دكروب واقفا في دكانه، وكانت فتاة صغيرة تقف بجانبه، تنتعل قبقابا، وتتطلع إلي «ببور كاز» بيدها وإلي السنكري دكروب، فسألها محمد : شو صار له هيدا؟، أجابت وقع على الأرض وانفكشت إجره)، هكذا كان يحكي دكروب عن حياته، عبر آخرين، ولم يقم مناحة حول هذه الحياة التي كان يمارسها بجانب العمل الأدبي والفكري والسياسي، وله ذكريات فريدة واستثنائية تدور في هذه المرحلة الخصبة التي تكونت فيها معارفه وشخصيته ومنهجيته وبعده الانساني العظيم، فالذي التقى بدكروب سيدرك على الفور أن هذا الرجل الظاهرة، العامل الذي أصبح رئيس تحرير أهم مجلة تقدمية في العالم العربي، وهي مجلة «الطريق»، هو رجل يجمع بين البساطة الحقيقية، والعمق الفكري، والعمق الانساني الذي يتجلى من خلال عباراته المفعمة بروح الدعابة والفكاهة أحيانا، وهو حكاء من طراز خاص جدا، جمعتني معه أكثر من منصة، أذكر أننا كنا في جلسة واحدة أثناء انعقاد المؤتمر الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة، وعندما كان يلقي بحثه، لم يكن متقعرا، ولم يلجأ إلى عبارات مركبة ومعقدة ومتحنجلة، بل كان يدخل إلي بيت الفكرة من أيسر الأبواب، وبعد ذلك يتنقل براحته في هذا البيت، حتى يكون قد شرحها بشكل رائع، وكان يمزج دوما بين الذكريات الخاصة التي جمعته مع من يتحدث عنهم، وبين كتاباتهم الإبداعية والفكرية، هكذا فعل مع يوسف ادريس ومحمد عيتاني الذي جمعتهماصداقة دامت أربعين عاما، وكذلك حسين مروة وكريم مروة، ونجيب سرور، ولطيفة الزيات والشيخ العلامة عبدالله العلايلي، إنه حكاء وناقد في الوقت ذاته، وتصلح كل الكتابات التي كتبها عن شخصيات أدبية وثقافية وفكرية وفنية لنصوص روائية حقيقية، ولكن هذا النوع من الروايات غير سائد في عالمنا العربي، ولكن يكفي أن تكون نصوص دكروب مادة أولية لتلك الروايات، وبالفعل استفاد البعض من أسلوب دكروب، وتنبع سلاسة هذا الاسلوب من كون محمد دكروب بدأ حياته كاتبا للقصة، وكان ينشر قصصه في مجلات الأديب والآداب والمكشوف والتلغرف اللبنانية، وكذلك له قصص منشورة في مجلة «قصص للجميع» المصرية، ومجلة النداء، ولذلك يتمتع دكروب بهذا الأسلوب الحكائي الممتع، بالإضافة إلي ذاكرته الحية، والتي تتحرك فيها الأحداث بقوة، وربما يعود إلى أوراقه أو مدوناته، او كتابات الآخرين، وهذا يؤكد على قدرته وحرصه على التدقيق، وعندما تتوه منه بعض الأحداث، يناشد الآخرين على استدعائها، وهو لا يفوت معلومة خاطئة مرت به دون أن يصححها.‏

Yomn.abbas@gmail.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية