تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


اللغة العربية ..ودورها في التكوين القومي ..

آراء
الاثنين 29/9/2008
يوسف مصطفى

يمتاز الانسان عن غيره من الكائنات بقدرته على التخيل ,والتعبير ,و/التمثل الرمزي / المعبر عن الفكر ,واللغة والمجتمع .. وعناصر تكون اللغة كوسيلة للتعبير هي عوامل : نفسية ,واجتماعية ,وتاريخية ,وعليه فاللغة تحقق التواصل بين أفراد المجتمع وأنساقه المعرفيةالمختلفة باتجاه صياغة العطاءات المختلفة : العلمية والثقافية ,وإبداعاتها الأدبية ,والفنية .. كما أن اللغة وسيلة للتعبير عن الاتجاهات السياسية ,والأيديولوجية ,والفلسفية الاجتماعية .

لقد عانت اللغة العربية الفصحى في تاريخها خللا في وظائفها ,ودورها حيث كانت في مرحلة التقدم الحضاري /القرن الرابع الهجري / وقبله وبعده قليلا قادرة على القيام بدور عالمي في استيعاب التراث اليوناني ,والفارسي والهندي ,والروماني في حينه تطورت ثقافة العقل والمنطق والمحاكمة وبالتالي النديةوالمثاقفة مع الآخر.. والأكثر من ذلك التأثير في ثقافة الشعوب من أقصى الهند إلى أعالي الأندلس فكرا ,وأدبا ,وفلسفة ,وتمثلا حضاريا ,ومعماريا إلخ .‏

ماحدث بدءا من عصر الانحطاط حتى اليوم هو تراجع في دور اللغة العربية وتأثيرها في الفضاءات الابداعية العالمية بنسبة أو بأخرى أكثر حيث طغت /العامية / واللهجات في المداولة ,والتعبير اليومي ,وحتى الاعلامي هذا من جهة ,لكن المؤثر الاكبر من الجهة الأخرى هو شيوع اللغات الاجنبية كتعبيرات لثقافة وعلوم, وتقنيات الحداثة .. وغيرها كما تنبه الكثير من العلماء العرب إلى تفشي العامية ودورها فكتبوا وألفوا في مسألة ضبط اللسان والإشارة إلى اللحن .‏

تباينت مواقف المثقفين في العصر الحديث من اللغة بين من يدعو إلى تجويدها وكيفيتها , والارتقاء بها ,وآخرون نظروا بعين الاعتبار لفعالية تداول اللغة ,وتكيفها مع الحياة ,والمعيش اليومي ,والمتداول ..‏

يرى الفريق الأول أن صفاء اللغة ,وأصالتها ضمان لاستمرار عبقريتها ,وتأثيرها ,.والفريق الثاني يرى أن الحياة تبدلت ,ولا يمكن اعتماد اللغة كمرجع ومثال ,وهناك فريق ثالث يحاول الموازنة بين الأصالة اللغوية ,وصياغتها واعتمادها ,وبين متطلبات الواقع اليومي ,ومداولاته وحاجات ,ولغة العصر .‏

لا أريد الإطالة أكثر في هذه المقدمة لأنتقل إلى الغرض الرئيسي في هذا /المقال / وهو الدور الكبير والأصيل للغة العربية في /التكوين القومي / ..وسؤال التكوين القومي هو أساسي في مشروعية الطرح الوحدوي لبناء هذا الكيان /الدولة الأمة / ..في مسار النضالات القومية السياسية, والثقافية لبناء وعي قومي جماهيري شعبي ..لا يمكن إلا أن تكون اللغة العربية بكل أجناس ابداعاتها الأدبية ,والمعرفية ,والفلسفية أساسا ومرتكزا في بناء الوعي القومي فعبر /اللغة العربية /وانتاجها المعرفي تنتج ثقافة /الوعي الوحدوي / وهي ثقافة مؤثراتها عقلية محاكمة حول الوحدة ,وحاجتها ,وضرورتهاوعاطفية وجدانية من حيث إيقاع اللغة ووسائل التعبير شعرا ونثرا وغناء ,ومسرحا إلخ في تكوين الوجدان العاطفي الوحدوي ,واندفاعاته المحفزة ,والحركية ,فمعادلة التأثير اللغوي هنا عقلية وعاطفية وجدانية .. وكمثال تطبيقي لتأثير الانتاج اللغوي في بناء الوجدانية الوحدوية أورد مثالا واحدا بسيطا من مئات الأمثلة ففي عام 1956 م استشهد البطل جول جمال الضابط العربي السوري في معارك العدوان الثلاثي على مصر ووقف شاعر العربية الكبير سليمان العيسى : في هذه المناسبة ليقول :‏

أرضنا تقبر الغزاة وتخضر‏

على الدهر أرضنا السمحاء‏

قدست قبضة من الرمل فيها‏

قصة المجد قبضة سمراء‏

يا شهيد الصباح أي مصير‏

واجهته الجريمةالنكراء‏

قد تمطى على الشواطىء تاريخ‏

جديد وغارت في جحرها رقطاء‏

ولدت أمتي فللعطر‏

تاريخ جديد وللربيع ابتداء‏

لن نضل الطريق للوحدة الكبرى‏

صوان القبور والشهداء‏

لقد ذهبت هذه / الرائعة / على كل لسان ,وأصبحت فاتحة كل حفل ,ومناسبة وطنية ,وقومية وصارت أغنية في المدارس ,ودرسا في الأنشاد ,وقد حفظها كثيرنا في خمسينيات القرن العشرين ,وكانت مع أشعار /سليمان العيسى / الأخرى مشعل نهوض قومي ,وحافز تضحية ,وفداء ,واذكر أننا حفظناها في تلك الأيام ولا زالت في ذاكرتنا ..‏

ثم كرس هذا النص ,في المناهج الدراسية للمراحل الاعدادية ,والثانوية ,وكم كنا نعشقه ونحبه .هذا مثال ميداني بسيط حول دور هذه اللغة وتأثيرها بفروع ابداعها المختلفة في تكوين الوجدان القومي .‏

وأنا دائما أركز على المفهوم /الوجداني / الداخلي كونه مصدر المحاكمة والصدق, والإيمان والاعتقادية الأصلية الثابتة .. خلاف اللفظ ,والادعاء ,والشعارات .‏

اللغة وليدة القائم ,والمعاش ,ووسيلة التعبير عنه وهي وسيلة الربط والاتصال الاجتماعي عبر الكلمات ,والجمل ,والاشارات ,والأهم المعاني ومحمولها ,ودلالتها ,وجهة وقوعها في نفس المتلقي ,وتأثيرها .والعربية غنية بطاقاتها اللفظية ,,وإيقاع حروفها ,وموسيقاها ,وخيال وفضاء مرادفها ,ومساحات تعبيره ,والفاعلية الأنسانية وتأثيرها يتعلق بنظام الاتصال اللغوي بين الناس,وتأثيره في وحدتهم الاجتماعية ,ووحدة أهدافهم ,ومصالحهم .‏

فاللغة بتعبيراتها المختلفة ,وأجناسها الفكرية ,والأدبية ,والعلمية .. هي التي تميز أمة عن غيرها بمعنى أنها تحمل خصائص الأمة ,وهويتها ,وانتماءها .اللغة وانتاجها تعبير عن التفكير , وكيفية تركيب المفاهيم ,والأحداث ,والتعامل معها .. اللغة حافز فاعل للشعور بالانتماء للجماعة ,وللأمة ,وهي رابط عقلي ونفسي .. واللغة هي واسطة نقل فكر الأمة ,وتراثها من جيل إلى جيل ,ودور ذلك في إقامة ثقافة /التراث والمعاصرة والجذور والفروع ,وكلها مترابطة في المسارات البشرية وتراكمها .‏

وحدة اللغة وأصالتها ,وتأثيرها الاجتماعي يعني تقارب النسق الاجتماعي حول /المشترك والأساسي /في الأهداف ,والتطلعات ورؤية الحياة وعيشها والمصلحة العليا فيها . /الهدف المجتمعي الكبير/ وهو في مثالنا العربي /قيام الكيان االقومي / الدولة القومية .‏

اللغة وسيلة التربية في مراحلها المختلفة باعتبارها وسيلة بناء ذهنية الأجيال .. والتأسيس الوجداني والفكري لهم ..من هنا تأتي قيمة تقارب المناهج العربية , والارتقاء بمستوى التنسيق التربوي عبر الجامعة العربية ومؤسساتها الثقافية وتواصل الفعاليات التربوية ..,‏

والثقافية بين الأقطار العربية .. وحقائق التاريخ تأكد دائما على الثقافة ودورها والفكر ودوره في أي عملية تغيير في العالم ودور اللغة باعتبارها وسيلة الفكر للتعبير عن طبيعة التغيير وأهدافه ومحدداته ,وطريق لانتاج التنمية الثقافية العقلية والوجدانية إن تطوير فعالية اللغة العربية في التداول لتصبح لغة تستوعب مفاهيم العصر , ومناهجه العلمية من حيث دقة التعبير , وحدود الدلالة وغنى المضمون لجهة المقصود باللفظ ووضع لغة التوصيف الملائم للمرحلة وحراكها الاجتماعي والوطني والقومي .‏

هذه قضايا أساسية في تطوير اللغة ,واستخدامها ,واعتمادها ,وارتقاء بدورها التعبيري الملائم للحاضر , والواقع المعيش .. والمواءمة بين استخدام الفصحى كلغة للتنمية الثقافية , وتحسين صيغ التعبير بما يقلل من العامية ولهجاتها ,وشرذمتها ,واستغلال ذلك في أقامة ثقافات محلية تكون حجة للآخر الذي لا يريد وحدة الجماعة العربية بل بعثرت شملها وتوجهاتها .‏

إن قيام تنمية ثقافية , ومنهجية , مدروسة عبر استراتيجيات تربوية عربية تملك قاسماً مشتركاَ في النظرة لثقافة الجيل , خارج الخلافات السياسية وتوابعها .. هي حاجة وضرورة قومية تنمية ثقافية تقارب العقل والمحاكمة والعلمية والابداع , والاضافة وتوسيع مساحات التعبير عن الأفكار والمشكلات , ومعالجتها .. هذه التنمية هي حاجة وضرورة في تعزيز دور اللغة , وفعلها في التكوين القومي الوحدوي.‏

وهناك المشكلة الكبيرة وهي الأمية في الوطن العربي والقضاء عليها بمشاريع كبيرة تمول قومياً.. وبمشاركة كل جهات الاستطاعة للمساهمة في انهاء هذه الظاهرة الخطيرة في البناء المجتمعي .‏

يبقى القرار السياسي العربي في النهوض باللغة ودورها أساساً ومااتخذ في مؤتمر القمة العربية الاخير في دمشق حول اللغة العربية وتمكينها , واجراءت ذلك بتشكيل لجان , ومستويات تطبيقية لهذا الموضوع هو خطوة هامة ارتقت بالمسؤولية اللغوية على ا لمستوى القومي ومؤتمرات القمة وقراراتها السياسية , والموضوع يحتاج المتابعة وسورية دائما في موقع الريادة في الدعوة القومية ومرتكزها اللغوي‏

كاتب وباحث‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية