|
آراء أيام زمان كان للعيد طعم آخر, فالأطفال يحلمون بثيابهم الجديدة التي أحضروها من المدينة ويضعونها بأحضانهم في الفراش حتى الصباح لينطلقوا إلى أراجيحهم وزغاريدهم, وكثيرون منهم ما كانوا ينامون بل يحلمون بفرحتهم غداً. في الأرياف كان للعيد لون آخر رغم الفقر الذي يلفّها وما أن تشرق شمس اليوم الأول حتى يتجمع الكبار ويذهبون لزيارة الأضرحة وقراءة الفاتحة على أرواح أعزائهم الذين غادروا هذه الدنيا, ثم تبدأ جولتهم الجديدة, فيذهب الجمع إلى أقرب بيت إليهم فيباركون لصاحبه بحلول العيد وبعد المعايدة القصيرة ينتقلون مع صاحب البيت إلى المنزل التالي وهكذا حتى تنتهي بيوت الحارة فيتوجهون إلى الحارة الثانية والثالثة حتى يصير الجمع جمهرة كبيرة. ولعلّ أهم ما في تلك التقاليد أن الأعياد تغسل الخصومات والضغائن التي تنشأ بين الحارات وخاصة أيام الانتخابات النيابية فتعود القلوب صافية وتنسى كل حارة خصامها مع الحارة الأخرى. أما الأطفال-وهذا بيت القصيد- فكانوا يلبسون حللهم الجديدة ويذهبون إلى العيد حيث تلتقي جموعة في منطقة قريبة من القرية مليئة بأشجار تظلّل الجميع وهنالك يجدون طبلاً وزمراً يرقص الناس حولهما ويشاركهم الأولاد فرحهم أيضاً. وتحت تلك الأشجار كان الباعة يفرشون أرزاقهم من كل نوع: حلويات ومأكولات وألعاب أطفال وتسلية من أراجيح وسواها. كانت الدنيا يومها رضية والأجواء هادئة لا يعكر هدوءها سوى قرع طبول الفرح وكان الناس والأطفال يعيشون أياماً سعيدة حتى المساء ليعاودوا الكرة في اليوم التالي وهكذا حتى تنتهي أيام العيد. في تلك الأيام كانت السيارات قليلة بل نادرة والجميع يذهبون إلى أماكن العيد سيراً على الأقدام ومع ذلك كانوا فرحين من القلب وسعيدين رغم ظروف الفاقة التي تحيط بهم. وفي المدن الكبيرة- أيام زمان- كان الأمر يختلف, فالألبسة الجديدة متاحة وقريبة في المتاجر العديدة, والمأكولات وألعاب التسلية متوفرة في جميع أحياء المدينة وحين يتزاور الأطفال مع أصحابهم في الحارات الأخرى كانت عربات الخيل (الحنطور) كثيرة, ومظاهر الفرح تغمر كل حارة وأهلها, فلم تكن التعقيدات الشديدة قد وصلت إلى أحيائهم وكانت الزيارات بين هذه الأحياء مستمرة تقرّب الأهل والأصدقاء من بعضهم وتغسل من تخاصموا في يوم ما. ولعلّ عدد السكان قد لعب دوراً كبيراً في تلك المظاهر والعادات إذ لم تكن المدن )وخاصة الصغيرة منها( قد عرفت بعد التداخلات والتشابكات والعادات الاجتماعية الناتجة فكانت حياة أولئك أهنأ وأهدأ وأقل تعباً منها الآن. أما في المدن الكبرى وخاصة دمشق-فللمسألة وجه آخر, ففي تلك الأيام كان عدد سكان العاصمة أقل من 500 ألف نسمة بكثير ما جعل الحياة بين الأهل والأصدقاء والأصحاب أكثر حميميّة وأكثر هدوءاً ,وإمكانية التواصل متوفرة بأسهل الأسباب فهنالك الحناطير والترامواي وعدد لا بأس به من السيارات ووسائط النقل التي تجعل تواصل أهل الميدان مع أهل المهاجرين ميسوراً ومقدوراً عليه في كل لحظة, ناهيك بما كان في الحارات من مظاهر متنوعة للعيد, فمن الأراجيح الكثيرة إلى بائعي الشرابات والمواد الغذائية التي لا حصر لها, إلى انتشار المطاعم بأعداد كبيرة وكلفة قليلة فكان الأطفال يجدون فيها جنة لا يفارقونها من الصباح إلى المساء. أما العيد اليوم, فعلى حلاوة مناسبته له في القلوب غصّات كثيرة تعصر أفئدة الأهل المنتشرين في سورية والجولان وفلسطين والعراق فهناك وهم تحت حراب الاحتلال لا يعرفون طعم ولا فرحة العيد وهم يقدمون يومياً عشرات بل مئات الشهداء, ففي العيد يفتّش المرء في قلبه فيجد صور أهل بعيدين عنه لا يعرفون الأعياد ولا الفرح ينامون ويستيقظون على هدير القنابل وشظاياها التي تقتل دون تفريق بين امرأة وطفل وعجوز مسن. في العيد رغم حلاوة مناسبته ثمة غصّات في القلوب, فلا مجال لفرحها وهنائها بل ربما تكون الغصة أكبر, فمناسبة العيد تفتق الجراح وتفتح أبواب الذكرى على مصاريعها ومع ذلك هو العيد وللأطفال كما يقولون للأطفال الذين يزقزقون بين الجنبات كالعصافير فلا تزال قلوبهم الصغيرة وخيالهم البسيط غير قادر على إدراك الأسى فيطير الفرح إليهم ويطيرون إليه بأجنحة من براءة إلى سماوات من السرور ولا بأس فما يزالون صغاراً على ارتياد ساحات الهموم والأسى. فكل عام وأنت بخير أيتها القلوب البريئة, وكل عام وأنت بخير أيتها القلوب المكلومة في أراضينا المغتصبة, وكل عام وجراحك الخالدة تقدم الدم والشهداء على طريق الأمة العظيم. |
|