تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قصيدة الهُنا والآن: القاموس الجديد ومسوغاته

الرسم بالكلمات
الاثنين 29/9/2008
يوسف رزوقة

ونحن في مطلع ألفية ثالثة يحق لنا الآن وهنا أن نسأل:

من نحن? لماذا نكتب? وبأي لغة?‏

وهي أسئلة حارقة نريد لها في واقعنا أجوبة ملموسة وإلا ضللنا الطريق وظللنا شعراء القطار المتخلف.‏

يحق لنا اليوم وأكثر من أي عصر مضى أن نكتب عصرنا على النحو الذي نريد, وباللغة التي تعبر عن اعتمالاتنا وهي شتى, وليكن مانقصده مختلفاً ومربكاً, إفرازه من إفرازات هذا الزمن.‏

ولنتفق أولاً:‏

ماذا يمكن أن يفعل شاعر يعيش ملء وعيه في فضاء اتصالي معولم, غير أن يرصد مايرى ومايراه بات أكثر وأوسع من لغتنا القديمة وأكثر إدهاشاً في تمظهراته من كل انجازات القرون الماضية.‏

ماذا يمكن أن يفعل شاعر في زمن العولمة?‏

غير أن ينحت قاموسه الخاص في محاولة منه للتناغم مع المستجدات, بعين جديدة وبأسلوب شعري متطور.‏

لم يعد للشاعر اليوم مايبرر هروبه, بشكل أو بآخر, من تسمية الأشياء, فليكتب إذن قصيدته على النحو الذي تقتضيه متغيرات المرحلة وليكن عينا ترصد التفاصيل الصغيرة والذرى وما ابتكرته عبقرية الإنسان, للشاعر اليوم (طريق ثالث) طريق المراوحة بين (التراثي( و(الحداثي) في محاولة إيحائية, إبداعية لتسويغ المصطلح العلمي الذي غزا حياتنا وتفشى في بيتنا وفي بيت القصيد.‏

نحن نعلم أن لكل شاعر إطارا مرجعيا يتفرع بدوره إلى ذاكرة جماعية وإلى ذاكرة فردية يتمثلهما الشاعر وبالتالي, لايملك الشاعر إزاء واقعه وإزاء إطاره المرجعي إلا أن يرهص بالتحولات تطلعاً إلى واقع جديد ينمذجه وفق انتظارات جمهور مستهدف تشبع هو الآخر بثقافة جديدة يحكمها التنوع والثراء- تماماً كالنظام العالمي الجديد- على خارطة تعامل جديدة وعلى الشاعر, شاعرنا اليوم أن يتعاطى معها, بمعايير فنية جديدة تقطع مع السائد, هذا الذي نراه في قصائد لاتنتمي إلى راهنها- وإن أوهمتنا شكلاً بذلك- أو في قصائد تمجد (النيكروفيليا) ولاتكتب إلا الموت ومشتقاته, لتجيء هلامية, رجراجة, باهتة, لاتحمل من ملامح عصرها إلا تسمية مغلوطة: كونها قصائد حديثة موغلة في نثرية فجة أو في تقريرية تحمل قارئها على مزيد التصحر والاستقالة من احتمال أن يكون هذا الأخير هو الآخرمشاركا وشاعراً بما يقوله الشاعر أن تكون شاعراً منطوياً على حس موسوعي, عارم وأن تحين تناولك الراهن للزخم المعرفي والتقني الناجم: ذلك هو المنشود في قصيدة (الهنا والآن) وذلك ماينقص شاعرنا اليوم كي يكون وكي يواجه التحديات المفروضة وكل أشكال المسخ المتفرضة: تشخيصاً نقدياً لعوارض الأوبئة الجديدة ووعياً بتمخضات العصر, هذا العصر تحديداً عبر تفكيك (شفرته) المعقدة واقتراح عالم بديل ورسالة شعرية (مشفرة) يرسلها الشاعر إلى قارىء متخيل, قارىء الغد الذي (قد) لايؤمن بجدوى مانكتب إذا جانبنا اهتماماته وظللنا على مانحن عليه: نجتر قوالب جاهزة, موروثة ونؤسطر بطولاتنا الوهمية مسكونين بنوستالجيا الماضي (التليد).‏

عصرناهذا يقتضي من قفزة مختلفة ولتكن في المجهول.‏

ذلك أن ما يهمنا هو أن نلقي بحصى الكلمات الكبيرة في المستنقع الآسن منذ قرون.‏

ما نكتبه لايبدو طموحاً بما يكفي ولايبدو جديداً بما يكفي ولا يبدو منسجماً مع عصره ذي الإيقاع المتسارع, بما يكفي, كل مانكتبه محاولات لاتسمو إلى مابه تطهر الذات الأمارة بالإبداع من أدرانها.‏

وكل مانكتبه مرشح للاندثار أمام أول هبة نقد (إن وجدت).‏

لماذا?‏

لأننا لم نؤهل قصيدتنا- وهي تتأهب للهبوط على الأرض عارية إلا من براءتها- لتتعايش مع طقس جديد ذي أنياب ومخالب تكنولوجيات أخرى, لأننا لم نر- وإلى الآن- في هذا الواقع, واقعنا المنفجر مادة شعرية يمكن استثمارها وتسويغها فنياً, على نحو إبداعي يرفد المنجز العلمي أو يمهد له, على الأقل.‏

لماذا لايبادر الشعراء, شعراؤنا بالمغامرة: بقتل أنفسهم حالا للانبعاث في قامات إبداعية, عملاقة?‏

سؤال نطرحه ولا ننتظر الجواب بل نذهب أبعد من ذلك لنسأل: إلى أي مدى نحن شعراء?‏

وهل نحن شعراء يحسنون القراءة?‏

هل نقرأ مثلاً الجرائد الصفراء, الكتب العلمية, مايجيء في المطويات المختلفة, طوابع البريد, مجلات الموضة, الأخبار المنوعة, التكهنات الفلكية, الرسوم, التنصيبات, وجوه الناس, أزياءهم, الأمكنة وكل ما تجود به الشبكات العنكبوتية للاتصال?‏

هل نقرأ مايجيء في اللافتات?‏

هل نقرأ أنفسنا وهي تتحول من حال إلى حال?‏

هل نقرأ الآخرين وهم يتعملقون في غفلة من أقلامنا?‏

هو سؤال أردنا من وراء تفريعه تبيان أن شاعر اليوم لن يكتب نصاً عظيماً بحجم المرحلة مالم يقرأ كل شيء حتى الخربشات.‏

تلك ثقافة الشاعر وبها يغتني قاموسه الشعري.‏

أما الذي ارتضى لقلمه مسلكاً مطمئناً (الاكتفاء بأبجديات الكتابة والوعي السطحي بقانون اللعبة مع نمطية ما يقرأ) فهو نموذج ضائع لايفرز إلا صوتاً ضائعاً في زحام المتغيرات.‏

قماش المعنى, دانتيلا اللغة: معادلة القصيدة الجديدة, قصيدة الهنا والآن نصبو من خلالها إلى تجسير ( علاقة مشابهة) نموذجية بين البورتريه والواقع, في مقاربة(أيقونية) سيميائية تعالج مايبدو, بدفع المعنى المتفرد إلى أقصاه وبتفجير اللغة: تعشيقاً لمفرداتها, وذهاباً بها إلى قمة العصر, هذا العصر تحديداً.‏

شاعر من تونس, أمين عام حركة شعراء العالم‏

في أميركا اللاتينية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية