|
ثقافة أنا وهو خرجنا من قاع واحد هو قاع الفقر والمسغبة ,كالكثرة الكاثرة من أبناء الوطن ,ومددنا أعيننا نحو شمس واحدة هي شمس الخلاص ,وسلكنا إضافة إلى معتقدنا الفكري الواحد طريقا واحدا حلمنا أن يكون فعالا للتغيير هو طريق الشعر ..إنه صديق العمر الوفي النجي (أبو إياد ). في مطلع الستينات تعرفت على عبد الكريم الناعم ومصطفى خضر شاعرين طريي العود من بلدي حمص ,وكنت يومئذ مثلهما أزغب الجناح في عالم الشعر والتجربة الحياتية, ,سعدت بمعرفتهما وعرشت أغصان شبابي بملقاهما ,كأنني وقعت على كنوز قارون ,ورحت أسعى للقائهما دواما كما كانا يسعيان للقائي في بيت أحدنا ,في مقهى ,في ناد ثقافي ...في أي مكان .فنجلس وردة برية غريبة ثلاثية التويجات كل تويج له شكله ولونه وخصوصية نموه وتفتحه وحضوره, لكننا جميعا وهذا ما وحدنا ,كنا نتأرجح بشذى سماوي واحد هو شذى الشعر الطفل ,والبدايات الأولى ,أجل نجلس حول مائدة الصداقة ,مائدة الحب الأخضر, وهل لنا غيره ,نتناقش ,نتفق ونختلف ,نقرأ أشعارنا لبعضنا بعضا ,نسمع آراء كل منا بالآخر ,نطرح أفكارنا ,نتحدث عن مطامحنا ,نرسم ونلون حديقة لأحلامنا ,ونسافر بأشواقنا إلى زمن آخر ,زمن فاتن طلي ,نقي تبدعه مخيلاتنا الشاعرية الشابة ,زمن إنساني لا يدين إلا بدين الحب البشري والعاطفة السامية ,زمن تنتسف من جذوره الفروق الطبقية وتسوده روح العدالة الاجتماعية ,ولا يبقى فيه ظالم يظلم دون أن يحاسبه أحد ومظلوم يتلقى الظلامة دون أن يستطيع ردا لها واحتجاجا عليها ,ومما وحد شملنا أكثر وأكثر وألف جمعنا أشد وأشد هو أننا تصادقنا في زمن سيطرت فيه النزعة الكلاسيكية المغرقة إطارا ومحتوى وأسلوب حياة على الحركة الشعرية في حمص ,كنا طلابا مخلصين لتيار الشعر الحديث نكتبه وننشره ونجد من الطرف التقليدي المتشدد جبها ونفورا واحتجاجا على خروجنا الطاغي المرفوض والمدان على المألوف المتداول السائد في الخباء الشعري النمطي المستمد من طحلب التقليد ,لا من أرض الرغبة في التجديد ,وطعنا في قدراتنا الابداعية على النظم السلفي المحافظ ,وتقليلا واستهتارا بقيمة ما تخطه يراعاتنا اللدنة المجددة وحكما على مستقبلنا الأدبي بموت قريب واتهاما لنا بالمروق على -تابو -اللغة (الشريفة) وتخريب حرم الشعر, كنا نتابع طريقنا على ثقة واطمئنان ودأب واجتهاد ,وكانت صفحات الجرائد في حمص والعاصمة وحتى مجلات بيروت الأدبية الراقية كالآداب والمعارف مثلا ,تستقبل نتاجنا الشعري والنقدي وتوسع له صدرها وتحتضنه بفيض من المحبة والرعاية والتقدير لمواهبنا الواعدة والمبشرة ,والمتسقة مع حالات التقدم والتطور في مختلف مجالات الحياة آنذاك .التويجات الثلاثة البازغة من رحم الأم والأرض والإنسان كانت تتلمس خطا شعراء رواد الحداثة خلال تلك الحقبة في الوطن العربي ,قبل أن تحاول تكوين صوتها الخاص بها كما يحدث عادة في أي تجربة شعرية وليدة غضة الاهاب : عبد الكريم كان معجبا بالسياب وطريقته في بيان القصيدة وبنيتها فكان شعره في تلك المرحلة شعر القرية السيابية ,ومصطفى كان مأخوذا بخليل حاوي ورموزه التموزية ,فكان شعره يسعى لتمثل المعاناة الانبعاثية الحضارية للإنسان العربي الممزق في خضم عصر التحديات الاستعمارية وجنون الآلة ,وأنا غرقت في التفاعل الخصب مع رومانسيات صلاح عبد الصبور وأحزانه الساجية ,أتجاوب معها وأعزف على معزفها بمعزفي عبد الكريم الناعم ..حداثة الانتماء وسنة وراء سنة كانت تتوطد بيننا نحن الثلاثة عرى الصداقة والشعر والحياة وتلتحم وتتناسج ,كان عبد الكريم شاعرا مثابرا ينمي ثقافته التراثية ويطعمها بروافد معطيات العصر الحديث وبتياراته الفكرية ومدارسه الأدبية ,ولا يزال على سنته هذه لا يحيد عنها فشخصيته الشعرية هي مزيج متآلف منسجم من إضاءات التراث العربي وتشكيلات الحداثة المعاصرة في كينونته الإنسانية وإبداعه الأدبي على حد سواء ,وإذا عاينا جماع شعره على مدار دواوينه التي أصدرها حتى الآن ,نرى هذه القدرة البالغة على تشكيل قصيدة حديثة حداثة الانتماء ,لا حداثة التقليد ,قصيدة لا تقطع خيوطها مع الماضي وإنما تستلهم نقاطه المضيئة وبؤره المشعة وتضرب عمقا في تقصي جوهره واستنبات بذوره وتطمح إلى أفق المستقبل فترنو إليه بعين بصيرة وتستشرف أبعاده . إن لغته الشعرية مفتونة باللفظة العامرة التي تمتح من بئر الصياغة البلاغية العربية في جزالة رقيقة انسيابية وتتشذى في الوقت نفسه بعطر رهافة الحداثة وانبثاق إيحائها وومض رمزها وشعاع تأثيرها لتعبر في عملية انصهارها ضمن بناها الفنية والتعبيرية عن عالم الناس الطيبين المطحونين المستلبين الضائعين بهمومهم اليومية ومعاناتهم القاسية ,إن لشعره منطقة حساسة بين الواقع والحلم ,بين الممكن والمستحيل يزيد من فعالية تأثيرها قدرة الشاعر على التصوير الشعري الفنان الذي يستمد مفردات اللوحة الشعرية وألوانها وظلالها من مفردات البيئة ,ومعايشات الحياة ومن نبض الطبيعة وحركة تبدلها ,ومن الهجس الصوفي والفلسفة الاشتراكية والانتماء القومي ولفحة الوجع الأكبر أو السعادة الكبرى ,لفحة الوجود بكل ثرائه وغزارة معانيه وعمق أبعاده وتسطع إيحاءاته وإيغال مدلولاته ,إن لغته الشعرية مطواع في زخم قلبه قبل أن تكون مطواعا على لسانه وقلمه ,ولغة كالوابل المدرار تزخ بريش مطري مخصاب ,لا تستعصي ولا تمانع . عندما يستفيض بي الألم ,تتعتق أحزاني ,تتعاظم انكساراتي النفسية ,أشعر بأنني أكاد أختنق ,يضيق علي الوجود ,بما رحب على الناس , عندما كل ذلك يستبد بي ,وأكثر منه مما لا يوصف أو أخفق في وصفه ,أستنجد بواحة عبد الكريم .. أهتف له ...وأشكو له ...أقول : أنا أحس بالصدأ, بالفراغ بالعدمية .. باللاجدوى فينبجس نبع صوته الريان على الهاتف تعال إلي ...تعال إلي ... غرفة شاعر .. فوضى منظمة ...كتب ..أشرطة ..مسجلة ,ربابة متكئة باستسلام ووداعة على الحائط ,صورة والدته - والدتي - الفلاحة الصبور ,الحكيمة ..سرير خشبي واطىء حتى الأرض عار من الحواجز .. لوحات تزيينية ..مجسمات ..فروة صوف بدوية معلقة ,عقال ,حطاطة .. على علاقة بجانبها تدلت مجموعة ربطات عنق ,صور أدباء عرب وأجانب تملأ الجدران .. غرفة متواضعة لكنها غنية بالإيحاء ..هنا ولدت معظم قصائد عبد الكريم ..في ليلها الشتوي الدافىء ..ضمن حيطانها المتطلعة إلى الشاعر بعيون من شيح ونرجس ..تحت سقفها الحاني على قلبه المرهف ... هنا في هذه الغرفة ,وبلمح البصر تهيىء أسرة الشاعر المضياف وجبة من دسم المحبة منوعة ملونة ,تنبسط على مائدة ,تتوسطها المشروبات الروحية ..وهنا يبدأ البوح والانهمار ... وتنطلق سيمفونية الحنين والحنين ,والحنان .. هنا تنفرط مسبحة المسارات ..حبة وراء حبة ..قد تغرورق العيون بالدموع .. قد يأخذ الضحك الأعمى بالخواطر حتى تكاد تنفلق ..وقد يسود صمت وجيع ... هنا أقضي مع صديق الرحلة ..رحلة الحياة ,ورحلة الشعر ,ورحلة الهموم الواحدة ,أعذب لحظات عمري وانشحن من جديد بقوى جديدة ,أستهلها من عبق الإنصات إليه .. وأغادر وأنا على موعد نفسي في صباح اليوم التالي مع شمس جديدة ,قد تسطع بالنسبة إلي يوما .. أو أسبوعا ..أو شهرا .. ثم تغيب ,وعندئذ أشعر أنني لابد أن أعود إلى الغرفة ثانية ..و...أعود ... موريس قبق ..نحت شعري وعود على بدء ثانية .. في إطار مدرسة الحداثة الشعرية أدهشني الصديق الخاص بصداقتي معه وله المبكر والسابق والرائد في انبثاقاته الإبداعية الشاعر الراحل الفقيد موريس قبق في بعض نحته الشعري وكده وتعبه في ابتكار قصيدته وشغله المتأني في صياغتها وعودته في عدد من نصوصه إلى الموروث الأسطوري غير العربي وشحه في (النظم ) حتى لم يخلف سوى ديوانه الوحيد الصغير (الحب واللاهوت ) طوال عمره الشعري .., أدهشني هذا القديس في محراب الفن الراقي ,بصمته المطلق عن قول الشعر أو روايته أو إلقائه لقصائده أو قصائد غيره أو الخوض في أحاديثه وتجلياته والحوارات حوله ونسيان أو تناسي لفظه (الشعر ) ودفنها من معجمه الحياتي أو الهروب من ذكرها في جلساتي الحميمية معه أو مع سواي أو افتعال أي كلام أو مسايرة خارج نطاقها ,وانتقاله بعد أن يئس من (عالم الشعر ) إلى عالم آخر مغاير له كل المغايرة ,غريب عنه كل الغرابة ,هو عالم التجارة والمادة ومشاريع الاستثمار والربح ..كيف من برج في السماء هوى فجأة إلى تراب في الأرض من علياء الروح إلى حضيض المال دفعة واحدة سفسف بجناحيه ..ما السر الخفي وراء هذه المفارقة المحزنة تجعلنا نخسر كما تخسر حركة الحداثة الشعرية العربية شاعرا كان يمكن أن يكون عظيما وكبيرا لو استمر في لغة الحرف والكلمة ولم يجنح بها إلى لغة الأرقام والحسابات ,ولكن دعونا نتذكر الشاعر الفرنسي الأسطورة (رامبو ) الذي طلق الشعر طلاقا أبديا وله من العمر تسع عشرة سنة وأصبح تاجر عبيد وذهب وسلاح في الحبشة ,بعد أن استحال عليه تحقيق (مشروعه ) المتخيل ,مشروعه الشعري الجمالي الخارق ...إن موريس صورة عصرية من صور رامبو بمعنى ما مع اختلاف الظروف والبيئة وملابسات (الصمت ) لكل منهما . |
|