تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ألبيرتو مورافيا: حين ينبلج الفجر ويعبر الغيوم الحزينة ..سأسافر في رحلة طويلة

عن F.magazine
ثقافة
الثلاثاء 23-3-2010م
ترجمة مها محفوض محمد

عملاق الأدب الإيطالي في القرن العشرين، صديق بازوليني، صاحب مؤلف «الاحتقار» خلدت اسمه السينما مع بريجيت باردو، تميز بسأم رافقه طيلة حياته ليبوح في آخر أيامه أنه كان يكتب في الصباح ويضجر بعد الظهر ويخرج في المساء.

في 23 تموز 1976 وبعد سنوات صعبة مرت بها إيطاليا من آثار الحربين العالميتين ومن المؤامرات والاضطرابات جيل جديد يتحرك من الشيوعية الأوروبية ومن الديمقراطية المسيحية، من محطة قطار بولونيا ومن شاطئ أوستي، مئات الكتاب الشباب يخرجون في شوارع روما ويهتفون بصوت واحد.‏‏

ومع أن ثقافة الموت تسلطت على بلادهم فهم لم يصبوا جام غضبهم على قسوة الزمن.‏‏

من بينهم كان واحداً من القلائل الذين اتخذوا إجراءاتهم بشكل تام، لكن جريمته الوحيدة أنه استطاع التأثير على الأدب الإيطالي بل أن يسطو عليه ويمنع ظهور موجات جديدة.‏‏

كان كما الأشجار الباسقة التي تعلو الغابات وتحجب أحياناً التلال الصغيرة.‏‏

ألبيرتو مورافيا المتعدد المواهب في جميع الأجناس الأدبية يأتيه اليوم أجمل تقدير من صديقه المترجم رينيه دوسيكاتي الذي ينشر سيرة رائعة عن حياة ملأها الألم والضجر، سيرة مفكر كما هي بورتريه لابن القرن الماضي، حيث عرضته قساوة الظروف وسعة الاطلاع لأشد الانتقادات.‏‏

مورافيا في إيطاليا يعادل كامو ومالرو في فرنسا مجتمعين، لماذا؟ لأنه جمع بين فنون مالرو الذي كتب عن الجمال والفن وآلام كامو الذي عانى من الهموم والثورة والموت في الجزائر، كان له طموح بروميسيوس الذي اختارته الأقدار ليعاني عذابات جسدية لاحدود لها، حتى الفنون التشكيلية لم تفته فهو من رواد الصالونات الأدبية في بريطانيا وروما وباريس.‏‏

ومع كامو لاتتوقف المقارنة هنا، فألبيرتو ولد مرتين، الأولى باسم ألبيرتوبانشيرل في 28 أيلول 1907 في روما لعائلة طيبة من أصل يهودي لأب مهندس معماري وأم كاثوليكية، كان الطفل المدلل الذي يفعل مايريد، لكن ومنذ نعومة أظفاره أصيب بمرض السل تبعته إعاقة جسدية ونفسية وكانت ولادته الثانية حين شفي من السل الرئوي لكن أثره بقي حتى مرحلة الشيخوخة، رغم مغامرات الحب وأسفاره وأعماله الضخمة، فالضجر كان يتقدم على الفرح خلال حياة هذا الروائي العظيم والذي لايعتبر فقط أكبر روائي إيطالي في القرن الماضي بل هو إذا صح القول وحده يجسد الرواية الإيطالية كلها.‏‏

هوالعملاق الأعرج الذي جابه التاريخ رغم مرضه، تاريخه وتاريخ بلده، مسائلاً الأفق البعيد ونظرات النساء إلى آخر أيامه حتى رحلته المشؤومة إلى إيرلندا في آب عام 1990 قبل موته بقليل حين وقف العجوز يتأمل «أوروبا بمتاريسها القديمة» للمرة الأخيرة.‏‏

كانت نزعته للهروب من آلامه تدفعه للسفر والبحث عن التجدد لكنها لم تحمل له التعزية المنشودة لأن مرضه انعكس بوضوح في رواياته المفعمة بالتشاؤم، فالموت ماثل في سطورها رغم المغامرات النسائية التي تملأ رواياته.‏‏

له العشرات من الكتب والقصص والمسرحيات وأهم رواياته الاحتقار/السأم مروراً بـ أغوستينو، روايته الأولى «اللامبالون» كتبها في سن الثانية والعشرين وحققت نجاحاً منقطع النظير وأعيدت طباعتها أربع مرات وترجمت إلى لغات عديدة يتحدث فيها عن عائلة من الطبقة المتوسطة وهي تمد يد المساعدة إلى الفاشية الإيطالية.‏‏

من رواياته أيضاًَ «امرأة من روما» و«العصيان» وغيرها كثير.‏‏

تميزت أعماله بالبراعة حيث استطاع الولوج إلى أعماق القارئ وركز على التحليل النفسي في العلاقات بين الجنسين كما هاجم كثيراً الفساد الأخلاقي.‏‏

اثنان وثمانون عاماً كلها معاناة رغم أسفاره ورغم وجود الكثير من النساء في حياته، فخلال الثلاثينيات من القرن الماضي وعقب اغتيال قريبه روسللي من عصابات النظام الفاشي يجد نفسه الكاتب الشاب ملزماً بالكتابة إلى الدوتشي موسوليني وإلى صهره الكونت سيانو يلتمس إليهما حق الكتابة ودون رقابة مبرزاً أوراق اعتماده إلى موسوليني ،فألبيرتو يفهم الطبيعة الظلماء لنظام خانق للحريات يسحق الإنسانية في قلب البشر.‏‏

هذا المشهد الأولي يقود خطواته فيما بعد ولايدعه تحت تأثير جاذبية ووهم الشعر الشيوعي يضاف إلى ذلك العار وخيبات الأمل، فبالنسبة لمورافيا لاتوجد حرية إن لم تكن حرية فكر أولاً، وهذا ماقربه إلى بازوليني الصديق الأفضل لديه الذي كان يقيس نفسه به لأنه موضع ثقته، كما أن موت بازوليني والظروف التي عاشها ألقت بظلالها على حياة مورافيا حتى مراحلها الأخيرة حين كتب:‏‏

مع ذلك يجب الإجابة عن السؤال الأساسي: من قتل ضحايا هيروشيما؟ من قتل بيير باولو بازوليني؟ إن الجواب على هكذا سؤال ليس سهلاً، فالأقدمون الذين يتمتعون بصفاء تراجيدي كانوا سيجيبون إنه القدر، وكنا سنقول إنه الشر اليوم قد نرغم على الإجابة إنه الفناء أوالعدم.‏‏

لقد انعكست أوضاعه الصحية على معنوياته التي انحطت لدرجة كان يتمنى الموت رغم نجاح أعماله وتألقها، ويبدو أن السنوات المحمومة نتيجة المآسي التي خلفتها الحرب العالمية على أوروبا كان لها أثر كبير على الجميع، شعر بها الجيل الذي عاصر مورافيا، وقد سبقه في ذلك غوته الذي كتب عن ظروف تاريخية مماثلة.‏‏

ولم يخرج مورافيا من أزمته إلا عبر النساء بأجسادهن ولغز جمالهن، ممثلات فنانات ومن بينهن زوجته الأولى الروائية إلزا مورانت وكانت على قدر من الجمال والجنون، وعدد لايحصى من المومسات لكن زير النساء هذا كان سخياً يقظاً مريباً رقيقاً ودافئاً.‏‏

كانت النساء تحبه كثيراً وكان يعشق هواهن، ولم تنقطع رحلاته إلى جميع أنحاء أوروبا.‏‏

والهند والصين والولايات المتحدة وإفريقيا ينشد أفقاً جديداً ليبدد سأمه وهو يعلم أنه لابد من العود الأبدي.‏‏

كان في الثالثة عشرة من عمره حين كتب إلى خالته يقول: منذ اسبوع كتبت شعراً أيضاً اختتمت رواية بدأتها ومع ذلك فأنا أشعر بالضجر.‏‏

هذا السأم الذي جعله بعد سبعين عاماً يقول للكاتب ساندرو فيروينزي: إن العجوز المراهق بقي على عادته يكتب في الصباح ويضجر بعد الظهر ويخرج في المساء.‏‏

هذا الضجر اللعين لم يتمكن التغلب عليه طوال حياته وكما توجس في شبابه حين كتب في أشعاره النادرة:‏‏

هاهي الأيام الحزينة‏‏

تمر كئيبة‏‏

وحين ينبلج الفجر ويعبر الغيوم الحزينة‏‏

سأسافر في رحلة طويلة.‏‏

وبعد عشرين عاماً على وفاة ألبيرتو مورافيا نأمل ألايكون السأم رفيق رحلته الأبدية.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية