|
ملحق ثقافي وما فيها هو مقهى مجاني صباحي، عادة مايكون في بيت المختار «ديوانية أو ديوان» يجتمع فيه كبار السن ضيوفاً ويتداولون شؤون وأخبار القرية و»الدنيا» والسياسة عموماً. وهناك انتبهت إلى أولى اهتماماتي الفنية فقد كان أبي يصطحبني طفلاً، وكنت أقلد مشية كل واحد منهم فيسليهم ذلك ويضحكون، لذا أردت في يفاعتي أن أكون ممثلاً وعملت مسرحيات ولازال اهتمامي بالمسرح يرافقني إلى اليوم. من هنا أيضاً تولد في نفسي الإحساس الدائم بالرغبة في أن أبدو أكبر من عمري. لاحقاً في بغداد، التي عُرفت بمقاهيها الثقافية الحيّة، ذهبت عدة مرات لكنني لم أتحول إلى مرتاد مداوم عليها، ولا أدري لماذا بالضبط، إلا أنني لم أجد في نفسي رغبة حقيقية بأن أكون جزءاً منها وأن تكون جزءاً مني. في الأردن كان ارتيادي أكثر حيث اللقاء بالأصدقاء وخاصة من المثقفين العراقيين هناك. أما في إسبانيا فإن المقاهي عموماً هي مظهر جوهري في الثقافة الإسبانية بل وربما هو أبرز مظاهرها وأكثرها جاذبية بحيث يقال أن بين كل بار وبار يوجد بار. وبالطبع إن اللقاء فيها بالأصدقاء لهو أفضل حتى من البيت. ومثلما هو الحال في عموم العالم كانت ذروة ازدهار المقاهي الثقافية في عقد الستينيات وعُرفت العديد من المقاهي التي أصبحت جزءاً من تاريخ ثقافة كل بلد، إلا أنها انحسرت لاحقاً مثلما انحسرت معها التجمعات والتيارات والأجيال والمجاميع الثقافية الجديدة عموماً. حالياً، وربما بفضل أو بحكم تأثير الأزمة الاقتصادية وأزمة الشِعر، ثمة عودة لافتة لهذا الأمر، لذا نجد الكثير من المقاهي ـ إضافة إلى تلك العريقة ـ صارت تخصص ولو يوماً واحداً في الأسبوع للنشاطات الثقافية وغالباً ماتكون أمسية أدبية لقراءات شعرية أو تقديم كتاب أو جلسات نقاش ثقافي وأدبي.. وما إلى ذلك. وفي بعضها صرنا نرى ولادة جماعات جديدة ودور نشر صغيرة ومجلات ومعارض تشكيلية وحتى عروض مسرحية. وهناك لقاءات وتجمعات لمختلف الأعمار والأذواق. وبحكم الأصدقاء أذهب إلى العديد منها بشكل يكاد يكون منتظماً، للقائهم ومعرفة المزيد من الجديد، حيث يقود ذلك بدوره إلى معرفة أصدقاء جدد يقودونك بدورهم إلى مقاهٍ وتجمعات أخرى وهكذا. ودائماً تخرج بمعرفة شيء جديد، أبسطها أن ينبهك أحدهم إلى كتاب جيد ربما ما كنت ستنتبه إليه أبداً. أعترف بأن لقاءات المقاهي الثقافية هذه قد صَحَّحت لي الكثير من أفكاري ونصوصي وزودتني بالكثير من المعارف، عدا أهمية وعذوبة اللقاء الشخصي والإنساني الحميم.. لقاء الإنسان بالإنسان، الأفكار بالأفكار والأحلام بالأحلام.. أوليس هذا هو أحد أهداف الثقافة وبعض من فعلها؟. مع ذلك، ففي قرارة نفسي، أُذكر نفسي بضرورة عدم الإدمان، كما هو حاصل عند الكثيرين، مما يصبح لاحقاً على حساب الوقت وعلى حساب العزلة التي هي ضرورية لأي منتج إبداعي ولمراجعة الذات أو لمجرد الراحة، وخاصة في زمن سريع الإيقاع تتسع فيه الأسواق ويتكثف العمل وتزداد المتطلبات الحياتية فيما يتقلص الوقت بحيث يوحي بشعور دائم بأزمة في الوقت. أنا الآن من رواد المقاهي الثقافية وآمل تنامي عودتها إلى حياتنا الثقافية فهي مدارس من نوع آخر، وحقول خصبة للنقاشات ومهد لولادة الكثير مما هو جديد، وبرأيي أننا بحاجة ماسة إلى تفعيلها الآن أكثر. |
|