تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الافتقار إلى البطء في إدراك المعنى

ملحق ثقافي
23/3/2010
ياسر اسكيف:هي المجموعة الشعرية الثانية للشاعر. وبدءاًً من العنوان ترتسم الخطوط التي تجهد في أن تقدّم تصوّراً للكتابة الشعرية كميل وانحراف في الممارسة النصيّة،

يتبعه بالضرورة انزلاق للقول عن مألوفه، وابتعاد به عن سطوة العادة والسياق المُطمئن. وفي إهدائه يبدو التمكن واضحاً في الاشتغال على الصيغ اللغوية التي لم تستنفد طاقتها بعد، حتى بكيفيتها المتداولة، على التملص من سلطة المعنى وتقديم إيحاءها الطازج:‏

«إلى الأصدقاء والغرباء‏

لكنني‏

أنحاز للثانية أكثر‏

فوزاً‏

بجمهور غفير. ص 3»‏

غير أن افتقاراً إلى البطء في تحصيل اللذة، كانفجار للمعنى أو القصد، سرعان ما يدخل ساحة التلقي ويعجّل بالأسف. ولا أعني بذلك الافتقار مطالبة بالإطالة النصيّة أو ما شابه، بل بتكوينٍ نصي يخلو من كلّ سببيّة، وبتجربة يرشح منها المعنى دون سعي إليه:‏

«أن أكون الصبي على درّاجته‏

فاردا ً ذراعيه... يحلّق بالريح‏

والصبيّ زَوّر ثناءات مدرسيّة‏

راقصا ً..‏

يخربط شاخصات عند مفترق. ص 9».‏

وتستمرّ كيفيات الكون في تحوّل يقترحه الذهن ولا تنتجه التجربة إلى أن ينغلق النص على «أغلق الحكاية، أمام إغماضه/ وبحجارة هائلة../ أشيّد غرفة صغيرة/ أزيح الصخرة.. وأدخل مخدعك. ص 11» طارحاً سؤال التدفق المقطوع بالحجارة الهائلة والمخدع. ويحذو حذو النص السابق «القرن الواحد والعشرون بقرة» حيث يمتدّ النص خادماً مطيعاً للنتيجة «ما حدث في بابل/ كرسي واحد /أقعد شعبا ً بأكمله. ص 19» وفي امتداده هذا يُفسد التماعات قلما نتبينها في نصوص اليوم «أستلقي على بسيطة الرب/ عاقداً أصابعي خلف رأسي/ متكاسلاً عن عقد أي عزم. ص 18».‏

وقد يأتي العنوان تدبيراً لإنقاذ السببية من فشلها في الإقناع بسلامة المنطق الذي يقود إلى القصد. وبهذا التدبير الاستباقي يلعب العنوان دور المُصادرة التي تفترض العموميّة في خصوصيّة شديدة الضيق، وأقرب ما تكون إلى سلوك مرضي وليس انحراف جمالي «مراهقة»:‏

«جاذبيته..‏

فقدها أمام مدرّس الفيزياء‏

لغة عربية‏

جلدته..‏

فعلا ً.. فاعلاً.. مفعولاً..‏

رويداً..‏

منحدراً، للسرّ تحت السرّة‏

يروّض نمره الوحشي‏

راكضاً في براري الخيال. ص 13».‏

وبعض النصوص تحاول اصطياد قارئها بذلك العنوان «حداثة» مؤكدة خطأ المتداول «المكتوب يُقرأ من عنوانه». إذ لا تقدّم هذه النصوص جديداً على المحاكاة الأخلاقية لسلوكات حياتية:‏

«حدّثها عن الحب وتحرّره‏

عن حداثة وتمرّد وجموح‏

...‏

أخيراً وآخراً‏

اصطفى البتول الخجولة‏

وسط هرج عائلي حافل. ص 15».‏

ونص «زبال» لم يقدم أي اقتراح مُختلف عمّا امتلأت به صفحات سابقة سوى أنه ساوى بين الورق والقمامة والمارّة بقرار من الشاعر رأى فيه أن يدين المارّة الذين قد يكونوا مساكين أكثر من هذا الزبّال. وفي «ورقة امتحان بيضاء» يقوم النص بتلويث عذوبته حينما ينكشف عن أنه أسير افتراض وجد كلّ منهما كعلّة لوجود الآخر. إذ أنه ما من ورقة امتحان تكون الإجابة فيها على سؤال وحيد، طالما كان موضوع سخرية، «ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟». والشقي الذي قدّمه النصّ موصوفاً، لم ترتق دلالاته عن سوية الوصف:‏

«الشقي‏

يدك مقاعد وجدراناً، يغني، يصرخ..‏

الشق..‏

جُلِد.. تحت جبابرة تربية وتعليم‏

لعن الأطلال والقبيلة، مديحاً وذمّاًً..‏

.. حدّق في ورقة الأمر: «ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟»‏

الشقي‏

يدكّ مقاعد...‏

و...‏

ورقة امتحان بيضاء. ص 28».‏

ومع تتالي النصوص يتعزّز هاجس القول، ومعه يكثر الافتراض فيما يخصّ التجربة، وينقلب النص من تجربة شعور وحدس إلى حدس بالتجربة، أي تأتي التجربة كإناء نصيّ لركود القول، ولكن بمسار معكوس هذه المرّة، فالجمل في النص لا تتعدى الوجود كمخمّدات وصفية تجهد في التحضير لما يمكن إحداثه من قطع في التهادي السردي. غير أن انكشاف سذاجة هذه الآلية في تصعيد الدهشة جعل من استخدامها، بشرط البراعة الفائقة، أشبه باستخدام المحارم الورقية:‏

«يغلبني‏

نعاس، أرق يغلبني‏

شارع، منعطف، مارّة، باعة..‏

تهزمني هزيمة نكراء‏

يغلبني قادة وثورات..‏

أنت ِ‏

«مغلوبُك»‏

ومغلوبتي. ص 48».‏

الكتاب: أسطرٌ مالت وانزلق ما أقول‏

الكاتب: أيهم خيربك‏

الناشر: دار بدايات، جبلة‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية