|
ملحق ثقافي قالَ ذلك لنفسه بحسرة. وقفَ أمام ذاك الرَّصيف متذكراً تلك الأيام التي كانتْ تزحفُ الصَّغيرة فيها في هذا المكان، تحبو مسرعةً لاستقباله كلما سمعَتْ صوت الباب، تصلُ أمام قدميه محاولة التّسلق فيهما، أو تطلبُ منه أن يحملها، تلفُّ يدَها الصَّغيرة على رقبته، تعانقه بحسّها الطّفولي المائي، بعد أن يُمطرها بقبلاته. تأمّل حديقةَ المنزل الصَّغيرة، حيث تُسوِّر أركانَها شجيراتُ «البُونْك المُزَهَّرة و هيرو» ذات الأزهار البنفسجية والصفراء، بقاماتها المتفرعة المليئة بكبرياء الأنوثة؛ الأنوثةُ زهراتٌ توقَّدَتْ مع شلالات الإحساسِ بوجودِ الكائناتِ الأبدية، فترقَّتْ بهبوبِ الضَّوء على بتلاتها؛ تجاورُها شجيراتُ الورد الجوري زاحفة بخصلاتٍ منها على عريشة العنب المتكبّر، ثمَّ قال لنفسه: هنا كانت تلعب في عامها الثاني، تلاحقُ الفراشات الملونة بزعيقها البنفسجي، طالبة منه الإمساك بها، تولّدَ لديها حبُّ الملاحقةِ لحشرات الربيع الطائرة، وكلّما حملَها في حضنه تؤشّرُ بيدها إلى الأشكال الملونة حيث تخضع لجاذبية جمالها، وفي أحيانٍ كثيرة تريدُهُ أنْ يركعَ على يديه ورجليه لتركب على ظهره، حيث متعة الفروسية أقوى من كلّ الألعاب.
في عامها الثَّالث تطلبُ منه أن يلعبَ معها لعبة «توم وجيري» فتقفز بحركات سريعة هنا وهناك، حيث ترتّبُ مقالبَ لجيري، وهي يجب أن تفوز دائماً، لا ترضى أن تخسر في أدوارها، تمثّلُ أدوار الأذكياء والأقوياء. تحبّ قصصَ الحيوانات، ومغامرة السّمكة الشقيّة، وتسأل: لماذا لا يعيشُ السّمك إلا في الماء؟ لماذا لا تعيش العجول في البحر؟ لماذا لا نطير مثل العصافير؟ فتفوزُ هنا عليّ لتخسَرَ هناك في أرضِ الأدخنة. هناك، حيث المجهول يلفُّ مصير الإنسان، اختبأ وجهُهَا وراء الأدخنة المنبعثة من اختلاف اللغات الغائرة في مصائرها الدائرية، أعمدةُ من الأدخنة تصعدُ منذُ الأزل لتلحفَ الجبالَ العملاقةَ المصبوغة بثلج العمالقة، هناك، كانَ صوتها يعلو على الأدخنة المشتعلة من شرَرِ الشّوارب الكثَّة الشَّبيهة بلحية شجرةِ «قُولَقْ». زعيقُها البنفسجي يرنُّ أثناء ملاحقتها الفراشات المخنوقة من الدّخان، صوتُها، المكتسب الآن نغمة الأنوثة، يعلو بتساؤلاتها: لماذا لا يعيش السّمك تحت الدخان، لماذا لا يلعبُ المراهنون على الأدخنة لعبة «توم وجيري»؟ كان ذلك لعبةً، أنْ يسرقَ أحدٌ خَطْوَ توقيعِكَ، لتأخذَ فراشتَكَ الغضَّة إلى أرضٍ مشتعلةٍ بحرائق القادمين من وراء المحيط، لعبة من خيال شهرزاد. نسَجَتْ المرأةُ الأمُّ خيوطَها بذكاءٍ يصلُ إلى مرتبة الخديعة الكبرى، الخديعةُ الكبرى كجبالِ العمالقة تُمَرَّرُ بدهاءٍ من نفق الكيد، حتى تستقرَّ بأرض الأدخنة الأبدية الزرقاء، ثمَّ تُرَتَّبُ الحكايةُ بلسانِ شهرزاد، وتُلْقَى على مسامع شهريار بعد فقدانِهِ اللِّسانَ، والسّيفَ، ولون الفراشات الضّائعة. تخبَّأَتْ وراء وداعة الحَمَل، تقنَّعَتْ بأوراق هيرو الأليفة المتناثرة تحت عريشة العنب»بضعة أشهرٍ نقضيها في الرَّصافة على طرفِ دجلة الشّرقي، ودجلة شاهدٌ وفيٌّ على أمري» أتقَنَتْ التمثيلَ الذي أحبَّتْه الصَّغيرة، ونصبَتْ فخاخها الكثيرة، لتنزع منه ذاك التّوقيع الأبله، وتأخذَ الصغيرة إلى أرض الحرائق والأدخنة، إلى براري الرَّافدين. سأل نفسَه ببلادة التّائه: هل مازالَتْ تذكرُ ذاك الرَّصيف الذي يحتفظُ بشكلِ حبوها؟ هل مازالت تلاحقُ الحشرات الطَّائرة تحت أدخنة الحرائق؟ هل ستطلبُ منّي أنْ أحبو على يديّ ورجليّ لتمارس فروسية الفرح؟ وهل تتذكَّرُ وجهَهَا المطبوعَ على خصلاتِ النّعناعِ عندَ قطفِ وريقاتها التي تختلطُ أنفاسُها مع الشّاي السيلاني؟ مازال قلبي على كفِّ القلقِ، ومازال توقيعي البليد على وثيقةِ سفرِها يتألَّمُ لغيابها عشر سنوات. |
|